وإنما عنت السائلة بقولها: (الأمر)،استقامة الحال، وصلاح الأحوال، واجتماع الشمل، وانتشار العدل، خلاف ما كانوا عليه في الجاهلية، فبيَّن لها أنَّ ذلك مرهون باستقامة السلطة، وهو أمرمعلوم بضرورة العقل، وشهادة الواقع، والحس، ومن الخطأ الشائع الظن أنَّ فساد السلطة نتيجة لفساد الرعية، والعكس أولى بالصواب، غير أنّ الرعيّة تعاقب على سكوتها عن ظلم السلطان، ورضاها به، باستدامة ذلك الظلم عليهم جزاء وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً.
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي لَا تَقُولُ لِلظَّالِمِ: أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ " (?)
ولهذا ورد في السنة كما في صحيح مسلم قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ، عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،يَقُولُ: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ» فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ " (?)
ولما كانت هذه الخُلَّة الجميلة فيهم، لا يكاد يُسلَّط عليهم ظالمٌ من أنفسهم، يستبيحهم كما يحدث عند غيرهم. ولهذا السبب _ أعني كون فريضة تقويم السلطة عظيمة جداً في هذا الدين _ صار أعظم الجهاد، ما يكون في تقويم إنحراف السلطة، وإصلاحها، كما روى النسائي عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (?)
وعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَالَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ» (?)