كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} [إبراهيم] ..
لقد كانت قراءة لنفسيات الشعوب المكلومة من نظراتها وهمهماتها وهمساتها، وكنت ممن يفهم تلك اللغة جيدا، وقد سمعت تلك الزفرات في كل مدينة وقرية عربية زرتها، فسمعتها في صعدة في أعالي جبال اليمن، وفي كسلا في أقصى سهول السودان، وفي هضاب فاس المغرب، وفي كل بلد عربي زرته، فعرفت حينها أن العرب قد عقدوا العزم على أمر عظيم، ولم يبق إلا التنفيذ!
لقد كفر العرب عن بكرة أبيهم بواقعهم، وضاقوا به ذرعا، وأخذوا يتنادون همسا، ويتداعون خرسا، بالإشارة دون صريح العبارة، وبالتلويح دون التصريح، ففهم الجميع عن الجميع مرادهم بأن الثورة قد وجبت وأزفت وآن أوانها (فهن ووادي الرس كاليد للفم)!
إلا إنهم لم يتفقوا على موعد محدد لانطلاق شرارة الثورة، ولا مكان محدد لتفجيرها، ولا مشروع سياسي محدد بعد تغيير الواقع، فالمهم عندهم هو الثورة! والثورة فقط! بعد كفرهم بالواقع كله الذي صنعه الاستعمار الخارجي وكرسه حلفاؤه في الداخل، ليصبح العالم العربي أكبر سجن عرفه التاريخ الإنساني، يسجن فيه نحو أربعمائة مليون إنسان، ويقوم على سجنهم ويسومهم فيه سوء العذاب أكثر من عشرين عصابة، نيابة عن الاحتلال الأجنبي!
لقد عزم العرب على ضرورة الثورة دون مؤتمر جامع، ودون اتفاق قومي شامل، ودون خطة عمل، بل كانوا يتهامسون فيما بينهم في المشرق فتصل همساتهم إلى أقصى المغرب، وما زالت خواطرهم تتوارد على اختلاف توجهاتهم الفكرية، وطبقاتهم الاجتماعية، فالشاعر في حديقته، كالسياسي في مقر حزبه، والعامل في مشغله، كالمفكر في مكتبه، فكلهم كان يترنم بالثورة القادمة ويمجد بطلها المنتظر الذي يترقب الجميع خروجه على أحر من الجمر، فإذا القدر قد خبأ لهم لا زعيما عظيما كصلاح الدين الأيوبي يخلصهم كما كانوا يحلمون، بل شابا فقيرا سيكون هو الملهم لهم، والصاعق الذي سيفجر الثورة في قرية سيدي أبو زيد، وليخرج البوعزيزي محمد من بين الملايين في الشارع العربي العريض