وهاك جملة من كلام المؤوِّلين لذلك؛ تحاميًا من الوقوع في التشبيه على ظنهم، وفرارًا من اعتقاد أن الرَّب يتصف بصفات هي تشبه صفات العبيد على زعمهم، فرحم الله المتقدمين، وغفر ما للمتأخرين!

قال الحافظ خاتمة المتأخرين ابن حجر العسقلاني في كتابه "فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري" عند الكلام على هذا الحديث في باب: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه: قال ابن بطال1: وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه يتقرب إلى عبده، ووصف العبد بالتقرب إليه، ووصفه بالإتيان والهرولة، كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز، فحملها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات، وتداني الأجسام، وذلك في حقه تعالى محال، فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز لشهرته في كلام العرب، فيكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرًا، وذراعًا، وإتيانه، ومشيه معناه: التقرب إليه بطاعته، وأداء مفترضاته، ونوافله، ويكون تقربه سبحانه من عبده، وإتيانه المشي عبارة عن إثابته على طاعته، وتقربه من رحمته، ويكون قوله: أتيته هرولة؛ أي: أتاه ثوابي مسرعًا. ونُقِل عن الطبري أنه إنما مثل القليل من الطاعة بالشبر منه، والضعف من الكرامة والثواب بالذراع، فجعل ذلك دليلًا على مبلغ كرامته لمن أدمن على طاعته: أن ثواب عمله له على عمله الضعف، وأن الكرامة مجاوزة حده إلى ما يثيبه الله تعالى. وقال ابن التين: القرب هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] فإن المراد به: قرب الرتبة، وتوفير الكرامة، والهرولة؛ كناية عن سرعة الرحمة إليه ورضا الله عن العبد، وتضعيف الأجر. قال: والهرولة ضرب من المشي السريع، وهي دون العدو. وقال صاحب "المشارق": المراد بما جاء في هذا الحديث: سرعة قبول توبة الله لعبد، أو تيسير طاعته، وتقويته عليها، وتمام هدايته، وتوفيقه، والله أعلم بمراده. وقال الراغب: قرب العبد لله من التخصيص بكثير من الصفات التي يصح أن يوصف الله بها وإن لم تكن على الحد الذي يوصف به الله تعالى، نحو: الحكمة، والعلم، والرحمة، وغيرها، وذلك يحصل بإزالة القاذروات المعنوية من الجهل، والطيش، والغضب، وغيرها بقدر طاقة البشر. وهو قرب روحاني، لا بدني، وهو المراد بقوله: إذا تقرب العبد مني شبرًا تقربت منه ذراعًا. اهـ. وهنا كلام كثير للعلماء المتأخرين،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015