شرحه على سنن أبي داود: وإضافة العبد إلى ربه؛ لتحققه بصفة العبودية، وقيامه بحق الربوبية، وشهوده لآثارهما وأسرارهما في صلاته التي هي معراج الأرواح، وروح الأشباح، وغرس تجليات الأسرار، التي يتحلى بها الأحرار عن الأغيار. ولما كان وصف العبودية غاية الكمال؛ إذ به ينصرف الإنسان من الخلق إلى الحق؛ وصف الله تعالى به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم في مقام الكرامة، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} "الإسراء:1" {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] وقوله في الحديث: "ولعبدي ما سأل" أي: أن الله عز وجل وعد عبده إذا سأله شيئا أن يعطيه، ويمنحه إياه، ويجيب دعاءه بشرط أن يكون مشروعًا، غير مشتمل على ما يمنع شرعًا، وعقلًا. وقوله: "إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين" بيان للصلاة التي قسمها عز وجل بينه وبين عبده، وبيان لمعنى القسمة لها، فذكر صلى الله عليه وسلم ما يقول الله تعالى عند قراءة العبد كل آية منها، وأعلم العبد: أنه يسمع قراءته، وحمده، وثناءه عليه، وتمجيده إياه، ودعاءه، ورغبته سماعاً يليق بعظمته وجلاله، فكل حمد، وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى؛ لأنه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد، ومنها نعمة الخلق، والإيجاد، والتربية، والتنمية، وهو الرحمن، كثير الرحمة، وغزيرها التي وسعت كل شيء، ورحيم بعبادي، يعفو، ويصفح، يكرم، ويحلم، وهو المالك ليوم الدين، له السلطان المطلق، والسيادة التي لا نزاع فيها حقيقة لا ادِّعاء، والعالم كله يكون فيه خاضعاً لعظمته ظاهرًا وباطنًا، يرجو رحمته ويخاف عذابه ذلك اليوم يوم الجزاء، يوم الحساب، يوم العرض على رب الأرباب، يوم تظهر فيه الأعمال، ويقول كل شخص: نفسي! نفسي! يوم لا يملك الإنسان شيئًا، بل الأمر كله يومئذ لله. قال الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 17- 19] أخرج ابن جرير، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود وناس من الصحابة: أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب، وكذا رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة قال: يوم الدين يوم يدين الله العباد بأعمالهم. وهو الذي يعبد وبه يستعان؛ أي: لا يعبد غيره، ولا يستعان استعانة حقيقة إلا به، والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلل، فاجتث الله بقوله ذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم الغابرة، وهي اتخاذ أولياء من دون الله، تعتقد لهم السلطة الغيبية، ويدعون لذلك من دون الله: ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا، ويتقرب بها إلى الله زلفى. وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد، ومقارعة المشركين، هو تفصيل لهذا الإجمال. وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]