البخاري ومسلم، وأصحاب الكتب الستة. ثم قال: «فكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا العلم، وإليه المنتهى، ثم من بعده نقص ذلك الطلب بعد، وقل ذلك الحرص، وفترت تلك الهمم. وكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرهم، فإنه يبتدئ ضئيلاً، وينمو قليلاً قليلاً. ولا يزال ينمو ويزيد ويعظم إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه، ويبلغ إلى أمد هو أقصاه، ثم يعود يكبر، ولا يلبث أن يعود كما بدأ. فكأن غاية هذا العلم انتهت إلى البخاري ومسلم ومن كان في عصرهما من علماء الحديث، ثم نزل وتقاصر إلى زماننا هذا، وسيزداد تقاصر الهمم سنة الله في خلقه {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (?)» (?).
وقد بحثت في فصل خاص أثر القرن الثالث في ظهور فقه المُحَدِّثِينَ وكيف توفَّرت في هذا القرن العوامل التي أدت إلى إعلان هذا الفقه، واستقلاله وتميزه عن المذاهب الفقهية التي عاصرته، والعلاقة بينه وبين هذه المذاهب.
لكن هذا الفقه أخذ في التناقص التدريجي بعد القرن الثالث، سنة الله في خلقه، كما ذكر ابن الأثير، حتى انزوى هذا الفقه، وطغت عليه المذاهب الأخرى، فاندرج تحت ما يقاربه منها، وبخاصة المذهب الحنبلي، والمذهب الظاهري، وهما المذهبان اللذان ينطويان على كثير من خصائص فقه المُحَدِّثِينَ.
وَقَدْ صَوَّرَ الخطيب البغدادي حالة أهل الحديث في عصره بما يبين سوء مستواهم العلمي، فيقول: «وَأَكْثَرُ كَتَبَةِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَعِيدٌ مِنْ حِفْظِهِ , خَالٍ مِنْ مَعْرِفَةِ فِقْهِهِ , لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مُعَلِّلٍ وَصَحِيحٍ ... كُلُّ ذَلِكَ لِقِلَّةِ بَصِيرَةِ أَهْلِ زَمَانِنَا بِمَا جَمَعُوهُ , وَعَدَمِ فِقْهِهِمْ بِمَا كَتَبُوهُ وَسَمَعُوهُ , وَمَنْعِهِمْ