وَأَصَّلُوهَا، حتى شاع في الأذهان أنهم لا يعرفون غير الحديث، وحصرهم الرأي العام في حدود الرواية وعلومها، واستبعد كثيرون أن يكون لِلْمُحَدِّثِينَ نشاط فقهي، بل شاع الفصل بين المحدث والفقيه: فعلى المحدث أن يجمع المادة، وعلى الفقيه أن يستعملها ويضعها موضعها. وهذا ما أشار إليه الأعمش حين قال لأحد الفقهاء: «أَنْتُمُ الأَطِبَّاءُ وَنَحْنُ الصَّيَادِلَةُ».
وقد ساعد على ترويج هذه الفكرة نماذج من الرواة لم تكن تنظر فيما تحمل، ولم يكن لها القدرة على الاجتهاد والاستنباط، مثل مطر الورَّاق - من مُحَدِّثِي القرن الثاني - الذي سأله رجل عن حديث، فحدثه به، فلما سأله الرجل عن معناه، أجابه مطر بقوله: «لَا أَدْرِي، إِنَّمَا أَنَا زَامِلَةٌ».
كما ساعد على ترويج هذه الفكرة كذلك كثرة طلبة الحديث وتزاحمهم على سماعه، وقد أساء كثير من هؤلاء الطلبة إلى المُحَدِّثِينَ بسلوكهم وسطحيتهم ولكن هذا لا يعني أن المُحَدِّثِينَ جميعًا كذلك، إذ ليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوب. وقد أجهد أئمة الحديث أنفسهم في تثقيف طلبتهم، وَأَلَّفُوا المؤلفات العديدة في توجيههم وتأديبهم.
والواقع أن المُحَدِّثِينَ لم يقتصر نشاطهم على علوم الحديث، بل كان لهم نشاط فقهي ملحوظ، لا يخطئه من يقرأ كُتُبَ السُنَّةِ قراءة عابرة، أما من يقرأها قراءة متأنية فاحصة، فسيلمس هذا النشاط، وتتكشف له أصالتهم ورسوخ أقدامهم في الفقه، وتتجلى له أصولهم ومناهجهم.
وإنما آثرنا القرن الثالث بالبحث، لأنه كان أزهى العصور بالنسبة لأهل الحديث، وأغناها برجاله وأئمته، وأحفلها بعلومه، وأنشطها في التأليف فيه. جمع علماؤه في هذا القرن، وَهَذَّبُوا، وَصَنَّفُوا وأتوا بما فاقوا فيه من قبلهم ولم يلحقهم فيه من بعدهم.
وقد ذكر ابن الأثير أن نهضة الحديث قد بلغت ذروتها في عصر