أَمَّا «حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ»، فقد ناقشه الطحاوي مُبَيِّنًا أنه لا حجة فيه: أما أولاً فلأن الواقدي قد قال: إن ماء هذه البئر كان جاريًا وكانت طريقًا للماء إلى البساتين، وأما ثانيًا - وهو الحجة العقلية - فلأنهم «قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ النَّجَاسَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي البِئْرِ فَغَلَبَتْ عَلَى طَعْمِ مَائِهَا أَوْ رِيحِهِ أَوْ لَوْنِهِ , أَنَّ مَاءَهَا قَدْ فَسَدَ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ بِئْرِ بُضَاعَةَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، إِنَّمَا فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يُلْقَى فِيهَا الكِلاَبُ وَالمَحَائِضُ. فَقَالَ: " إِنَّ المَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ ". وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ بِئْرًا لَوْ سَقَطَ فِيهَا مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ مُحَالاً أَنْ لاَ يَتَغَيَّرَ رِيحُ مَائِهَا وَطَعْمُهُ , هَذَا مِمَّا يُعْقَلُ وَيُعْلَمُ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَبَاحَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءَهَا، وَأَجْمَعُوا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ دَاخَلَ المَاءَ التَّغْيِيرُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الجِهَاتِ اللاَّتِي ذَكَرْنَا - اسْتَحَالَ عِنْدَنَا، وَاللهُ أَعْلَمُ، أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَائِهَا وَجَوَابُهُ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَا أَجَابَهُمْ - كَانَ وَالنَّجَاسَةُ فِي البِئْرِ. وَلَكِنَّهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ، كَانَ بَعْدَ أَنْ أُخْرِجَتْ النَّجَاسَةُ مِنَ البِئْرِ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ: هَلْ تَطْهُرُ بِإِخْرَاجِ النَّجَاسَةِ مِنْهَا فَلاَ يَنْجُسُ مَاؤُهَا الذِي يَطْرَأُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَذَلِكَ مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ لأَنَّ حِيطَانَ البِئْرِ لَمْ تُغْسَلْ وَطِينُهَا لَمْ يُخْرَجْ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ المَاءَ لاَ يَنْجُسُ ". يُرِيدُ بِذَلِكَ المَاءَ الذِي طَرَأَ عَلَيْهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ النَّجَاسَةِ مِنْهَا لاَ أَنَّ المَاءَ لَا يَنْجُسُ إِذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ» (?)، ثم أيد هذا المعنى بما رواه من أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «المُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ»، وَقَالَ: «الأَرْضُ لَا تَنْجُسُ»، فلم يكن معنى ذلك أن المؤمن لا ينجس وإن أصابته النجاسة، ولا أن الأرض لا تنجس وإن أصابتها النجاسة، فقد أمر - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بصب ماء على موضع البول في المسجد.