المقدم: أيضاً يقولون: عندما تحبون أنتم التدين لماذا تقصون الآخر؟! وهذا أيضاً من الشعارات الزائفة.
الشيخ: هذا من أكبر الشعارات الهدامة أو الفعالة، فهم يعتبرون صمود أهل الحق على الحق، ويعتبرون إظهار الحق والاعتزاز به، ويعتبرون إنكار الباطل -حتى وإن كان بحكمة ورفق- إقصاء.
وأهم من هذا اعتزاز الأمة بدينها، واعتزاز المسلم بسلوكه الإسلامي، والانتماء للدين الحق، والانتماء للسنة والجماعة، ويتبعه التدين بمعنى التمسك بالإسلام، فهذا كله يسمونه إقصاء للآخر، فإذا كنت تعتز بدينك، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتناصح الآخرين، وتبين الضلالة للناس لئلا يقعوا فيها، وتبين الحق وتدعو إليه؛ اعتبروا هذا نوعاً من التميز غير المشروع، ويترتب عليه الإقصاء للآخر.
ولذلك دعني أقف وقفة عند مسألة الإقصاء، فأقول: أولاً: يجب أن نعرف أنهم يقصدون بالإقصاء: إنكار الباطل بأي صورة من الصور، كإنكار عقدي، أو إنكار علمي، أو إنكار وجداني، أو إنكار بالسلوك، فأي إباء للباطل بجميع صوره -حتى الصور الجزئية الصغيرة- يعتبرونه نوعاً من الإقصاء لأهل الباطل، ولعل هذا -إن شاء الله- يمر منه نماذج في خلال الحلقات القادمة بقدر ما يتيسر.
والحقيقة أنا لو أخذنا هذه الدعوى بالميزان العلمي الموضوعي المتجرد بالتتبع والإحصاء والاستقراء؛ لوجدنا أنهم هم الذين يمارسون أقصى وأقسى أنواع الإقصاء.
المقدم: عجيب! الشيخ: أي نعم؛ لأن الإقصاء إذا أخذناه -أولاً- بالمفهوم اللغوي فإنه يعني: رفض الآخر، وهذا الرفض إذا كان ينبني على أسس علمية وشرعية فهو أمر طبيعي فطري في بني الإنسان.
بل الإقصاء هو الحاصل عند الذين يتباهون بديمقراطيتهم الآن، فهم يمارسون أقصى درجات الإقصاء.
المقدم: مثل ماذا يا شيخ؟ الشيخ: مثلاً: لما أراد الغرب أن يدخل في هذه الحرب الاستباقية أعلن مبدأ: (من لم يكن معي فهو ضدي)، أليس هذا إقصاء للبشرية؟ المقدم: بلى.
الشيخ: حتى الذين انساقوا مع هذا التيار من الأمم رغبة أو رهبة -أو لاجتماع المصالح على المسلمين- هم -في الحقيقة- يعانون من الإقصاء، ولولا القوة والهيمنة لأعلنوا ذلك.
فهذا هو الإقصاء بأعلى درجاته: إقصاء اليهود للأمم الأخرى، وإقصاء الدول الغربية التي تحمل لواء الصليبية والحرب على الإسلام، فهذه أعلى درجات الإقصاء ممن يمجد هؤلاء ويرى أنهم مثال وأنموذج للديمقراطية، فالديمقراطية الآن تحمل بأصحابها لا بمعناها، فمعناها يحتاج تفصيل؛ إذ الديمقراطية تحمل معاني صحيحة ومعاني باطلة، لكن أقصد الديمقراطية كشعار يمارس أصحابه اليوم -ومنهم هؤلاء العقلانيون عندنا- أقصى درجات الإقصاء للآخر، هذا أمر.
الأمر الآخر: نجد أنهم -بناءً على ما سبق من الكلام الماضي- يمارسون الإقصاء -في الحقيقة- من خلال نفورهم وازدرائهم وسخريتهم من المؤمنين ومن الصالحين، وهذا ظاهر، وهو ما نهج عليه أسلافهم خصوم الأنبياء الذين قالوا لنوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ} [هود:27]، فمن هم الأراذل عندهم؟! إنهم أتباع نوح عليه السلام خيار الخلق في جميع أنواع الخيرية، والخيار من أتباع الأنبياء ليسوا -كما يتوهم هؤلاء- عبارة عن عباد يتقوقعون في زوايا المساجد، بل هم رواد الحياة، تجدهم ينشطون في أمور الدنيا والدين؛ ولذلك كابدوا وجاهدوا وأقاموا حضارات.
أعود فأقول: هم يقصدون بالإقصاء: الولاء والبراء الذي قرره الله عز وجل في كتابه، وهو من ثوابت الدين، ويقصدون بالإقصاء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون بالإقصاء: الأحكام الشرعية التي يقول بها المتدينون، وتقسيم البشر على ضوء التقسيم الشرعي، أي: مؤمن وكافر، ومستقيم وفاجر، مع أن هذا الأمر لا نمارسه كتسلط على العباد، بل نحن نحكم بأحكام الشرع.
ولا يفوتني في نهاية هذا التعليق أن أشير إلى مسألة مهمة ينبغي أن أذكرها في كثير من المواضع التي تحتاج إليها، وهي أن هؤلاء الذين يتهمون الأخيار بالإقصائية قد يتذرعون ويستدلون ببعض المواقف الفردية للمؤمنين، كبعض المواقف الفردية لأهل الحسبة، أو بعض المواقف الفردية للدعاة، أو غيرهم من عامة المسلمين، فيستدلون بالمواقف التي تخرج عن المنهج، فيأخذونها ويجعلونها ذريعة لاتهام المؤمنين بالإقصائية، واتهام المتدينين بالإقصائية.
أقول: هذه التصرفات والسلوكيات ليست على المنهج، ونحن نحكم بحكم الإسلام في التفريق بين تصرف البشر والمنهج، فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر بالحكمة، ونجاهد في سبيل الله إذا توافرت عندنا شروط الجهاد، ونناصح الخلق بما أمر الله به، وندعو الناس، كما أننا نعتز بديننا، ونعتز بمقوماتنا، واعتزازنا لا يعني احتقار الآخرين، بل يعني دعوة الآخرين للحق.