المقدم: دعنا -يا شيخ- الآن نشرع في مسألة مناهج العقلانيين العامة، فقد ذكرت في بداية الحلقات أن العقلانيين ليسوا على مرتبة واحدة، وأن المناهج قد تختلف من مدرسة إلى أخرى، ولكن هناك مناهج عامة تجمع هؤلاء القوم، فمن المناهج العامة أننا نلحظ في هؤلاء العقلانيين ضحالة المعرفة الإسلامية والثقافة الإسلامية والجهل بعلوم الشريعة.
الشيخ: نعم، هذه سمة عامة فأغلبهم -بل المؤثرون فيهم الذين لهم القيادة في هذه الاتجاهات على اختلاف طوائفها وأطيافها- يغلب عليهم الجهل، لا أعني الجهل بمفردات المعلومات؛ لأن الجهل له مصطلح شرعي ومصطلح عام، فلا أقصد المصطلح العام، وإنما أقصد المصطلح الشرعي، وهو قلة الفقه في الدين.
فهم لا يعرفون الأدلة، وإن عرفوها لا يفقهون منهج الاستدلال، وهذا نوع من الجهل، والجهل بالأصول والثوابت والقواعد أشد خطراً من الجهل بمفردات الشريعة؛ ولذلك نجد وضع عامة المسلمين الذين هم جهلة بتفصيلات الدين أو قضاياه الجزئية ليس بالخطير؛ لأنهم لا يتبنون أفكاراً ومبادئ وأصولاً ومناهج خطيرة.
أما هؤلاء فجهلهم جهل مركب وهم لا يشعرون، فهم يعلمون بعض المفردات، وعندهم كمٌ من الثقافة، ولكن ليس عندهم ضوابط ومناهج شرعية تسلم بها ذممهم ويسلكون بها المنهج الذي يرضي الله عز وجل، ويحقق مصالح للعباد، وهو منهج الدين في تطبيقاته وأصوله.
المقدم: ذكرت -يا شيخ- فرقاً مهماً بين الشخص الجاهل الذي لا يعلم مفردات الدين، وبين ذلك الجاهل جهلاً مركباً، ونحن بهذا الكلام نحاول أن نسهل هذه المعلومة أكثر، فما المقصود بالجاهل؟ وهل الجهل كله مذموم؟ الشيخ: الجهل كله مذموم، لكنه بالنسبة إلى الأفراد راجع إلى الاستطاعة والقدرة، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فالإنسان الذي مداركه بسيطة مداركه يسيرة لا نحمله ما لا يطيق؛ إذ لا يستطيع أن يعلم ما يعلمه من هو أعلى منه مداركاً، فالقادر على العلم الشرعي والتمكن فيه يختلف عن غير القادر، حتى لو كان عنده مقدرة ومواهب، ولكنه منشغل بأمور حياته ومنشغل بالقيام بواجبات الأمة في جوانب أخرى، فهذا يسعه أن يجهل كثيراً من أمور الدين ما عدا الضروريات، أعني ما يقوم به دينه، إذاً: هذا الجهل نسبي.
وعلى هذا فإنا نقول: إن أصحاب الاتجاهات العقلية جهلة؛ لأنهم -أعني الرواد والرءوس من ذوي المواهب- أصحاب ذكاء وأصحاب مقدرات، فهؤلاء لا يعذرون في تركهم المسلك الصحيح في الفقه في الدين، فجهلهم جاء من حيث إنهم انحرفوا في تلقي الدين بأصوله الصحيحة.
المقدم: بعضهم قد يقول: كيف تقولون: إن هؤلاء جهَّال وأحدهم قد يكون بروفسوراً في تخصص معين، ومنهم من كتب بعض الكتابات، أو ألف بعض الكتيبات حول مسائل دقيقة في الفقه، كالمرأة والصلاة، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟ الشيخ: لأنه -كما قلت- قد لا يكونون جهلة بالمفهوم العام، فالجهل هنا شأنه كأي مصطلح من المصطلحات العامة، فله مفهوم شرعي، مثل العلم، فالعلم إذا أطلق في النصوص -كالأمر به وفضل طلبه- يقصد به العلم الشرعي، ومع ذلك سمى الله عز وجل سائر العلوم بأنها علوم، لكنها علوم مقيدة.
وكذلك الجهل، فالجهل أمر نسبي، فنقول: إن هؤلاء جهلة في الجانب المتعلق بأصول الدين وثوابته، وإلا فهم يدخلون غالباً تحت تصنيف المثقفين، فهم مثقفون، لكنهم من المنظور الشرعي -فيما يتعلق بموضوعنا- جهلة.
وهذا وارد في النصوص، فلماذا سميت المراحل التي كانت قبل الإسلام بالجاهلية الأولى، وجاء بذلك ذكرها في القرآن والسنة، مع أن فيهم شعراء وفيهم أدباء وفيهم أفذاذاً في بعض التخصصات؟! ذلك أنهم جهلوا حقيقة الحياة كما أراد الله عز وجل، وجهلوا مناهج الدين التي تضبط الحياة، ولم يكونوا على دين يهذب عقولهم ويهذب عواطفهم، ويجعلهم على مسلك يرضي الله عز وجل فسموا أهل الجاهلية.