وأسكنه جنته، فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ، وكان عدو الله يطيف به وهو صلصال كالفخار، فيتعجب منه، ويقول: لأمر عظيم قد خلق هذا، ولئن سلط على لأعصينه، ولئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما تم خلق آدم عليه السلام فى أحسن تقويم وأكمل صورة وأجملها، وكملت محاسنه الباطنة، بالعلم والحلم والوقار، وتولى ربه سبحانه خلقه بيده، فجاء فى أحسن خلق، وأتم صورة، طوله فى السماء ستون ذراعا، قد ألبس رداء الجمال والحسن، والمهابة والبهاء، فرأت الملائكة منظرا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل، فوقعوا كلهم سجودا له، بأمر ربهم تبارك وتعالى، فشق الحسود قميصه من دبر، واشتعلت فى قلبه نيران الحسد المتين، فعارض النص بالمعقول بزعمه، كفعل أوليائه من المبطلين.
وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] .
فأعرض عن النص الصريح، وقابله بالرأى الفاسد القبيح. ثم أردف ذلك بالاعتراض على العليم الحكيم، الذى لا تجد العقول إلى الاعتراض على حكمته سبيلا. فقال:
{أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَى؟ لَئنْ أَخّرْتَنِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذرِّيّتَهُ إلا قَلِيلاً} [الإسراء: 62] .
وتحت هذا الكلام من الاعتراض معنى: أخبرنى، لم كرمته على؟ وغور هذا الاعتراض: أن الذى فعلته ليس بحكمة ولا صواب، وأن الحكمة كانت تقتضى أن يسجد هو لى، لأن المفضول يخضع للفاضل، فلم خالفت الحكمة؟.
ثم أردف ذلك بتفضيل نفسه عليه، وإزرائه به، فقال:
{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] .
ثم قرر ذلك بحجته الداحضة، فى تفضيل مادته وأصله على مادة آدم عليه السلام وأصله. فأنتجت له هذه المقدمات إباءه وامتناعه من السجود، ومعصيته الرب المعبود. فجمع بين الجهل والظلم، والكبر والحسد والمعصية، ومعارضة النص بالرأى والعقل، فأهان نفسه كل الإهانة من حيث أراد تعظيمها، ووضعها من حيث أراد رفعتها، وأذلها من حيث أراد عزتها، وآلها كل الألم من حيث أراد لذتها، ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه فى مضرته لم يبلغ منه ذلك المبلغ. ومن كان هذا غشه لنفسه فكيف يسمع منه العاقل ويقبل ويواليه؟.
قال تعالى {وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجدُوا إِلا إِبْلِيس كانَ مِنْ