وفى هذه القصة تنبيه على الأخذ باللوث الظاهر فى الحدود، وإن لم تقم بينة، ولم يحصل إقرار، فإن وجود المسروق مع السارق أصدق من البينة، فهو بينة لا تلحقها التهمة، وقد اعتبرت شريعتنا ذلك فى مواضع.

منها: اللوث فى القسامة، والصحيح: أنها يقُاد بها، كما دل عليه النص الصحيح الصريح.

ومنها: حد الصحابة رضى الله عنهم فى الخمر بالرائحة والقيء.

ومنها: حد عمر رضى الله عنه فى الزنا بالحبل، وجعله قسيم الاعتراف والشهادة فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله فليس دونه.

فلما فتشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع كان ذلك قائما مقام البينة والاعتراف، فلهذا لم يمكنهم أن يتظلموا من أخذه ولو كان هذا ظلما لقالوا: كيف يأخذه بغير بينة ولا إقرار؟.

وقد أشبعنا الكلام فى ذلك فى كتاب "الإعلام باتساع طرق الأحكام".

والمقصود: أنه ليس فى قصة يوسف عليه السلام شبهة، فضلا عن الحجة، لأرباب الحيل.

فإنا إنما تكلمنا فى الحيل التى يفعلها العبد، وحكمها فى الإباحة، والتحريم، لا فيما يكيد الله سبحانه وتعالى لعبده، بل فى قصة يوسف عليه السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيداً محرماً فإن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يكيده، وأنه لا بد أن يكيد للمظلوم إذا صبر على كيد كائده، وتلطف به، فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله تعالى يكيد له، وينتصر له، بغير حول منه ولا قوة.

فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده.

النوع الثانى: أن يلهمه أمرا مباحا، أو مستحبا، أو واجبا، يوصله به إلى المقصود الحسن، فيكون على هذا إلهامه ليوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا، فيكون قد كاد له نوعى الكيد، ولهذا قال سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] .

وفى ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعى الذى يحبه الله تعالى ورسوله، من نصر دينه وكسر أعدائه، ونصر المحق وقمع المبطل: صفة مدح يرفع الله تعالى بها درجة العبد، كما أن العلم الذى يخصم به المبطل، ويدحض حجته صفة مدح يرفع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015