فإن المحتجين بذلك لا يجوِّزون شيئاً مما فى هذه القصة البتة، ولا تجوزها شريعتنا بوجه من الوجوه، فكيف يحتج المحتج بما يحرم العمل به، ولا يسوغه بوجه من الوجوه؟ والله سبحانه إنما سوغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاء لإخوته، وعقوبة لهم على ما فعلوا به، ونصراً له عليهم، وتصديقاً لرؤياه، ورفعة لدرجته ودرجة أبيه.
وبعد، ففى قصته مع إخوته ضروب من الحيل المستحسنة.
أحدها قوله لفتيانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهمْ لَعَلّهُمْ يعْرفونَهَا إذَا انْقَلَبُوا إلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] .
فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم، وقد ذكروا فى ذلك معانى:
منها: أنه تخوّف أن لا يكون عندهم ورق يرجعون بها.
ومنها: أنه خشى أن يضر أخذ الثمن بهم.
ومنها: أنه إذا رأى لؤما أخذ الثمن منهم.
ومنها: أنه أراهم كرمه فى رد البضاعة، ليكون أدعى لهم إلى العود.
وقد قيل: إنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى الرجعة، ليردوها إليه، فهذا المحتال به عمل صالح.
والمقصود: رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله، وهو مقصود صالح، وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر، فيها منفعة لهم ولأبيهم وله، وتمام لما أراده الله تعالى بهم من الخير فى هذا البلاء.
وأيضاً، فلو عرفهم نفسه فى أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يحل ذلك المحل، وهذه عادة الله سبحانه فى الغايات العظيمة الحميدة: إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسباباً من المحن والبلاياً والمشاق، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت، وأهوال البرزخ، والبعث والنشور والموقف، والحساب، والصراط، ومقاساة تلك، الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى مكة ذلك المدخل العظيم، بعد أن أخرجه الكفار ذلك المحرج ونصره ذلك النصر العزيز، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه.