ارتفع في مُعتركِ الحَرْب عَجَاجُهما، فجرَّ كلُّ منهما جيشًا من الحجج لا تقوم له الجبال، وتتضاءل له شجاعةُ الأبطال، وأدلى كل منهما من الكتاب والسنّة والآثار بما خضعت له الرقاب، وذَلَّت له الصِّعاب، وانقاد له علم كل عالم، ونفَّذَ حكمه كلُّ حاكم، وكان نهاية قدم الفاضل النحرير الراسخ في العلم أن يفهم عنهما ما قالاه، ويحيط علمًا بما أَصَّلَاه وفصَّلاه؛ فليعرف الناظر في هذا المقام قدره، ولا يتعدى طوره، وليعلم أن وراء سويقتيه بحارًا طامية، وفوق مرتبته في العلم مراتب فوق السُّهي عالية، فمن وثق من نفسه بأنه من فرسان هذا الميدان، وجملة هؤلاء الأقران، فليجلس مجلس الحكم بين الفريقين، ويحكم بما يرضي اللَّه ورسوله بين هذين الحزبين، فإن الدين كله للَّه، وإن الحكم إلا للَّه، ولا ينفع في هذا المقام: قاعدة المذهب كيت وكيت، وقطع به جمهور من الأصحاب، وتحصَّل لنا في المسألة كذا وكذا وجهًا، وصحح هذا القول خمسة عشر، وصحح الآخر سبعة، وإن علا نسبُ علمه قال: "نصَّ عليه" فانقطع النزاع، ولزم ذلك النص في قرن الإجماع، واللَّه المستعان وعليه التكلان". ثم قرر ما رضيه، فقال على لسان -ما سماهم- (المتوسطين بين الفريقين):

"قد ثبت أن اللَّه سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض؛ فلا يناقض القياسُ الصحيحُ النصَّ الصحيحَ أبدًا".

وفصل الأمر بتقرير قاعدة مهمة هي:

بيان إحاطة الأوامر الشرعية بأفعال المكلفين، وبجميع الحوادث، ورد على ما هو شائع في كتب الأصول بأن الأصول متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع، وزيّفه من وجوه ثلاثة، وضرب أمثلة عديدة تؤتد ذلك، ثم عرج على بطلان القول بنفي الحكمة والتعليل، وربط موضوع (القياس) وبيان انحراف الغالين فيه والمنكرين له بأصول عقدية (?) تخالف معتقد أهل السنة، قال في (2/ 96، 97):

طور بواسطة نورين ميديا © 2015