"ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمة أهل السنة رآه يُنكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط؛ فينكر قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول الجهمية المنكرين لِلحِكَم والأسباب والرحمة، فلا يرضون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية، ولا بقول القدرية الجبرية نفاة الحكمة والرحمة والتعليل، وعامة البدع المحدثة في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية، والجهمية رؤوس الجبرية وأئمتهم أنكروا حكمة اللَّه ورحمته وإن أقروا بلفظ مجرد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة، والقدرية النفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته؛ فأولئك أثبتوا نوعًا من الملك بلا حمد، وهؤلاء أثبتوا نوعًا من الحمد بلا ملك؛ فأنكر أولئك عُمومَ حَمْدِه، وأنكر هؤلاء عموم مُلكه، وأثبت له الرسل وأتباعهم عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه؛ فله كمال الملك وكمال الحمد؛ فلا يخرج عينٌ ولا فعلٌ عن قدرته ومشيئته وملكه، وله في كل ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحق عليها الحمد، وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراطٍ مستقيم، وهو حمده الذي يتصرف في ملكه به لأجله.

والمقصود أنهم كما انقسموا ثلاث فرق في هذا الأصل انقسموا في فرعه -وهو القياس- إلى ثلاث فرق: فرقة أنكرته بالكلية، وفرقة قالت به وأنكرت الحِكَم والتعليل والأسباب؛ والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين وأنها أحالت على القياس، ثم قالت غلاتهم: أحالت عليه أكثر الأحكام، وقال متوسطوهم: بل أحالت عليه كثيرًا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به" قال:

"والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلنا اللَّه ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية: وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان، وقد تخفى دلالةُ النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له فيكون فاسدًا؛ وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته، لكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته".

ثم قوّم أهل القياس ونفاته، بقوله في (2/ 98):

"وكل فرقة من هذه الفرق سَدُّوا على أنفسهم طريقًا من طرق الحق؛

طور بواسطة نورين ميديا © 2015