أن كلًا منهما مفرط، وذلك من خلال أمثلة في فهم بعض النصوص الشرعية وذكر وجوب إعطاء اللفظ والمعنى حقّهما، وذكر أمثلة توضيحية تدلّل على مراده، وفيها ما يدلّل على عبقريته في وضع الأشياء في أماكنها، وبعد ضرب هذه الأمثلة، تفرغ للرد على (نفاة القياس)، وبدأه مُجمِلًا ما سبق بقوله في (1/ 400): "قد أتينا على ذكر فصول نافعة، وأصول جامعة، في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تجده في غير هذا الكتاب، ولا بقريب منه".

قال أبو عبيدة: وكلامه -واللَّه- حق، فقد طرق موضوع القياس بما يخدم النصوص، وبناه عليها، وفصل الجيد من الرديء، والسليم من السقيم، والصحيح من الضعيف، بوجه فيه اتباع للسلف، وبُعد عن المباحث الكلامية التي لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب (الأصول) المعروفة.

وتعرض بعد ذلك في صفحات عديدة من (1/ 403 - 425) بسرد أمثلة ذكرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم صاغ بعد ذلك إشكالات عليها وعلى الأمثلة السابقة، ذَكَرها من القرآن على لسان (نفاة القياس)، واستطرد في ذكر (أدلة نفاة القياس)، متعرضًا إلى ما ورد عن الصحابة والتابعين من نهيهم عنه، وأن القياس يعارض بعضه بعضًا (?)، وأن أهله متناقضون، مع إيراد أمثلة تدل على ذلك، ثم مثل على ما جمع فيه القياسيون بين المتفرقات، وأنهم راعوا بعض الشروط دون بعضها الآخر في بعض المسائل، وهذا من تناقضهم، وعرض تحت هذا مسائل فقهية عديدة، أطال النَّفس في بعضها، ثم عقد مقارنة بين (القائسين) و (معارضيهم) بلغة قوية، فقال في (2/ 88 - 89) وعلى لسان (المعارضين):

"وهذا غَيْضٌ من فيضٍ، وقطرة من بحر، من تناقض القياسيين الآرائيين وقولهم بالقياس وتركهم لما هو نظيره من كل وجه أو أولى منه وخروجهم في القياس عن موجب القياس، كما أوجب لهم مخالفة السنن والآثار كما تقدم الإشارة إلى بعض ذلك، فليوجدنا القياسيون حديثًا واحدًا صحيحًا صريحًا غير منسوخ قد خالفناه لرأي أو قياس أو تقليد رجل، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلًا، فإن كان مخالفةُ القياس ذنبًا فقد أريناهم مخالفته صريحًا، ثم نحن أَسعدُ الناس بمخالفته منهم؛ لأنا إنما خالفناه للنصوص؛ وإن كان حقًّا، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

فانظر إلى هذين البَحْرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما، والحزبين اللذين قد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015