فانظر، هل تحسّ شيئاً من كل ما تقدم أو من شبه ما تقدم في أسلوب القرآن الكريم؛ وهل ترى فيه من الغرابة التي يكسوها البلغاء كلامهم في تجويد رصفِه وحَبكِه، إلا أن غرابته في كونه
منسجماً لا غرابة فيه؛ وهل عندك أغرب من هذه السهولة التي يسيل بها القرآن، وهي في كثير من الكلام وكثير من أغراضه تقتضي الابتذال، وفي القرآن كله على تنوع أغراضه لا تقتضي إلا الإعجاز؟
وانظر، هل ترى هذه السهولة الغريبة في نفسها مما يمكن أن يُحَس فيها روح إنساني كسائر الأساليب، أم هي سهولة الأوضاع الإلهية التي يعرفها كل الناس ويعجز عنها الناس كلهم، ثم يعرف العلماء منها غير ما يعرفه الجهال، ثم يمتاز بعض العلماء في المعرفة بها على بعض،
ثم يبقى فيها سر الخلقِ مع كل ذلك مكتوماً لا يعرَف، وما هو سر الإعجاز!
وتأمل، هل تصيب في القرآن كله مما بين الدفتين إلا رهبة ظاهرة لا تمويه في شيء منها، وإلا أثراً من التمكن يصف له منزلة المخلوق من أمر الخالق، وإلا روحاً أكبر من أن يكون نفساً إنسانة أو أثراً من آثار هذه النفس، ثم هل تجد في أغراضه إلا ما كان في وضعه مادة لتلك الرهبة
ولذلك الأثر وذلك الروح؟
هذا على أن فيه من المعاني الكثيرة والأغراض الوافرة، مما لو كان في كلام الناس لظهر عليه صبغ النفس الإنسانية لا محالة، بأوضح معانيه وأظهر ألوانه؛ وبصفات كثيرة من أحوال النفس، وحسبك أن تأخذ قطعة منه في الموعظة والترغيب، أو الزجر والتأديب، أو نحو ذلك مما يستفيض فيه الكلام الإنساني، فتقرنها إلى قطعة مثلها من كلام أبلغ الناس بياناً، وأفصحهم عربية
لترى فرق ما بين أثر المعنى الواحد في كلتا القطعتين، ولتقع على مقدار ما بين الطبقة الإنسانية في السعة والتمكن، فإن هذا أمر لا تصف العبارة منه، وإذا وصفت لا تبلغ من صفته، ثم لا دليل
عليه لمن يريد أن يستدل إلا الحسن.
ومعنى آخر وهو أننا نرى أسلوب القرآن من اللين والمطاوعة على التقليب، والمرونة في التأويل، بحيث لا يصادم الآراء الكثيرة المتقابلة التي تخرج بها طبائع العصور المختلفة، فهو يفسر في كل عصر بنقص من المعنى وزيادة فيه، واختلاف وتمحيص، وقد فهمه عرب الجاهلية الذين
لم يكن لهم إلا الفطرة، وفهمه كذلك من جاء بعدهم من الفلاسفة وأهل العلوم، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وأثبتت العلوم الحديثة كثيراً من حقائقه التي كانت مغيبة
وفي علم الله ما يكون من بعد؛ وإن ما عُهِد من كلام الناس لا يحتمل كل ذلك ولا بعضه، بل