وما دامت قوة الخلق ليست في قدرة المخلوق، فليس في قدرة بشر معارضة هذا الأسلوب ما دامت الأرض أرضاً، وهذا هو الصريح من معنى قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) .
صدق الله العظيم.
وبعدُ فأنت تعرف أن أفصح الكلام وأبلغه وأسراه وأجمعه لحرِّ اللفظ ونادر المعنى، وأخلقَه أن يكون منه الأسلوب الذي يحسمُ مادة الطبع في معارضته، هو ذلك الذي تريده كلاماً فتراه نفساً حية، كأنها تُلقي عليك ما تقرؤه ممزوجاً بنبرات مختلفة وأصوات تدخل على نفسك - إن كنت
بصيراً بالصناعة متقدماً فيها - كل مدخل، ولا تدع فيها إحساساً إلا أثارته، ولا إعجاباً إلا استخرجته، فلا يعدو الكلام أن يكون وجهاً من الخطاب بين نفسك ونفس كاتبه، وتقرؤه وكأنك تسمعه، ثم لا يَلجُ إلى فؤادك حتى تصير كأنك أنت المتكلم به، وكأنه معنى في نفسك ما يبرحُ
مختلجاً ولا ينفك ماثِلاً من قديم؛ مع أنك لم تعرفه إلا ساعتك، ولم تجهد فيه، ولا اعتملت له؛
وذلك بما جَوَّده صاحبه، وبما نفث من روحه، وما بالغ في تصفيته وتهذيبه، وما اتسع في تأليفه وتركيبه، حتى خرج مطبوعاً من أثر مزاجه وأثر نفسه جميعاً فكأنه مادة روحية منه.
وقد رأينا بلغاء هذه الطريقة في الأساليب العربية، يتوخون إليها في تصاريف الألفاظ؛ وتمكين الأسلوب، وإرهاف الحواشي، واجتناب ما عسى أن تبعث عليه رخاوة الطبع وتسمح النفس، من حشوٍ أو سفساف أو ضعف أو قلق، ثم التوكيف للمعنى بالمترادفات المتباينة في
صورها، ثم الاستعانة بالمعطوفات على النسق، وبالإسجاع على الأسلوب، وبوجوه الصنعة
البيانية على كل ذلك، فلا تقرأ سطراً من كلامهم إلا أصبت ماء ورونقاً، ولا تمر فيه حتى يُقبل عليك بالصنعة من وجهها المصقول، وحتى يبادرك أنه التنقيح والتهذيب بين الكلمة وأُختها،
والجملة وضريبتها وحتى لو كنت ذا بَصر بالصناعة، وقد عركَتك وعركتها؛ وكنت أملَكَ بصعابها، وأخبر بشعابها - لعرفت فضول الكلام كيف حذِفت، وألفاظه كيف نزلت، ومحاسنه
كيف رصعت، ووجهه كيف مسحَ، وخلْقه كيف عصبَ، ثم لاستطعتَ أن تعيِّن في أي موضع من الكلام كانت زفرة الضجر من صانعه، وعلى أي كلمة وقفت أنفاس الملل، وعند أي مقطع كانت
فترة الطبع، وأين ضاق وأين اتسع، وإن كان هذا الكلام الذي نحن في صفته كله يعد نسقاً واحداً وصنعة مفرّغة، يعلم ذلك من يعلمه ويجهله من يجهله.