أسلوب كأسلوب الجاحظ، وهو من أدق الأساليب العصبية. فإنه لا يصنع شيئاً، وإذا نُتج له كلام على هذه الطريقة فلا يجيء إلا مضطرباً متعثراً مطبَقاً بأبواب التعسف والتكلف، وكأنه نتاج بين
نوعين متباينين من الخلق؛ ولكن هذا الأديب عينه إذا أخذ في طريقة السجع أو الترصل المتداخل الذي ليس حذراً ولا مساوقة كترسل الجاحظ وأضرابه - فقد لا يتعلق بجيده في ذلك شيء.
ولا يزال بيننا أدباء وعلماء بالبلاغة ووجوه الكلام يعجبَون كيف لا يتهيأ لأحدهم أسلوب كأسلوب ابن المقفع أو عبد الحميد أو سهل بن هارون أو الجاحظ، وكيف لا تستقل له طريقة من ذلك على كثرة ما حاولوا من تقليده والأخذ في ناحيته؛ ولا يدرون أنهم يحملون سر إخفاقهم،
وأن أحدهم إذا استطاع تعديل مزاجه على وجه من الوجوه الطبية، ليكون بين مزاجين، فقد يستطيع تعديل أسلوبه على وجه يكون وسطاً بين أسلوبين.
وهذا عبد الحميد الكاتب رأس تاريخ الكتابة العربية وواضع طريقتها، فقد أخذ نفسه بحفظ كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرادها على طريقته، ثم جاءت كتابته فناً آخر لم يستحكم اتفاق الأسلوب بينها وبين ما أثر من كلام الإمام علي، وقد قيل إن "نهج البلاغة"
مصنوع، وضعه الشريف الرضي ونجله أمير المؤمنين، والصحيح أن فيه الأصيل والمولَّد. وربما انفردا وربما تمازجا ونحن نستطيع بطريقتنا أن نزايل بين ما فيه من ذلك، ونبين وضعاً من وضع؛
فإن المزاجين لمختلفان كما يُعرف من صفة الإمام علي ومن صفة الشريف.
من ذلك يخلصُ لنا أن القرآن الكريم إنما ينفرد بأسلوبه، لأنه ليس وضعاً إنسانيأ ألبتة، ولو كان من وضع إنسان لجاء على طريقة تشبه أسلوباً من أساليب العرب أو من جاء بعدهم إلى هذا العهد، ولا من الاختلاف فيه عند ذلك بد في طريقته ونسقِه ومعانيه (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
ولقد أحسَّ العرب بهذا المعنى واستيقنه بلغاؤهم ولولاه ما أفحموا
ولا انقطعوا من دونه، لأنهم رأوا جنساً من الكلام غير ما تؤديه طباعهم، وكيف لهم في معارضته بطبيعة غير مخلوقة؛
ولما حاول مسيلمة أن يعارضه جعل يطبع على قالِبه، فجاء بشيء لا يشبهه ولا يثبه كلام نفسه، وجنحَ إلى أقرب ما في الطباع الإنسانية وأقوى ما في أوهام العرب من طرق السجع، فأخطأ الفصاحة من كل جهاتها، وإن الرجل على ذلك لفصيح.