قبيلاً مما زعمه بعضهم من أن حقيقة هذا الإعجاز هي أن العرب لم يعلموا وجه الترتيب الذي لو تعلموه لوصلوا به إلى المعارضة. . وهو دليل لا يُثبت شيئاً إلا عجز قائله وحده.
فإن قلت: أتنكر أن ما زعموه هو الدليل على الإعجاز، وأنه لا ينهض دليلاً ولا يتماسك إذا نهضَ وأنه زعم على الهاجس ورأي على ما يتفق، وأن مسألة الإعجاز لا تحل بصناعة الأقيسة
ومُلابَسةِ الجدال، وأن هذه التقسيمات وَصحل لا يُغني وحَشو لا يسمِن؛ قلتُ في ذلك: لَشَدَّ ما. . .!
أما الذين يقولون إن القرآن غيرُ معجز، لا بقوة القدَر ولا بضعف القدرة، فقد ذكرنا من أمرهم طرفاً، وأشدهم بعد الجعد بن درهم: عيسى بنُ صَبيح المُزدارُ وأصحابه المزدارية، وكان عيسى هذا تلميذاً لبِشر بن المعتمر - من أكبر شيوخ المعتزلة وأفراد بلغائهم - ثم كان مبتلى بجنون
التكفير، حتى سأله إبراهيم بن السِّندي مرة عن أهل الأرض جميعاً، فكفرهم، فأقبل عليه وقال:
الجنة التي عَرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت، وثلاثة وافقوك؛. . . ومع هذا فكان الرجل من الزهد والورَع بمكانِ حتى لقبوه راهب المعتزلة.
وقد زعم أن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحةَ ونظماً وبلاغة؛ وعلى ذلك أصحابه،
وهو جنون بلا ريب ليس أقبح منه إلا جنون الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني الذين يزعمون أن كتبهم وكلامهم أبلغ وأهدى وأبين من القرآن.
وذلك زعم يكثر أن يكون جهلاً وسخفاً
من قوم شاهدين على أنفسهم بالكفر، وإنما هو بعض يزينه شيطان النفاق (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) .
قد رأيتَ أن أقوال الأولين في إعجاز القرآن وأدلتهم عليه مما لا يَحتمل البسطَ والاتساع إلى ما تُفْرد له الكتبُ وتوضع فيه الدواوين.
وتلك آراء كانوا يتوارَدون في المناظرة عليها ويتجارَؤن
الكلامَ في تصويبها والاحتجاج له في مجامع سمرهم وحلقات دروسهم، إذ كان الناس إجماعاً على القول بالإعجاز والمشايعة فيه وكانت الكلمة لا تزال متخففة فيهم عن العرب، فهم على علم
مذكور من أوليتهم وسلفهم الذين أعزهم القرآن الكريم، وعلى عيان حاضر من فصحاء البادية الذين يختلفون إليهم، ومن أهل العربية وطائفة الرواة وهذا كله مما يتسند إليه الطبع وإن كان
طبع العامة الذين فسدت لغتُهم والتَوَت ألسنتهم.
ومر الناس على ذلك إلى أوائل المائة الثالثة، فلما فشت مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة