القرآن غير معجزة؛ وخيف أن يلتبس ذلك على العامة بالتقليد أو العادة، وعلى الحُشْوَة من أهل الكلام الذين لا رسوخَ لهم في اللغة ولا سَليقةَ لهم في الفصاحة ولا عرق لهم في البيان، مسَّت
الحاجة إلى بسط القول في فنون من فصاحته ونظمه ووجهِ تأليف الكلام فيه، فصنفَ أديبنا الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ كتابه (نظم القرآن) وهو فيما ارتقى إليه بحثنا أولُ كتاب أفراد لبعض
القول في الإعجاز أو فيما يهيئ القولَ به، وقد غض منه الباقلاني بقوله: إنه لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله؛ ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى (أي الإبانة عن وجه المعجزة)
وذهب عن الباقلاني - رحمه الله - أن ما دعا الجاحظ إلى وضع كتابه في أوائل القرن الثالث، غير الذي دعاهُ هو إلى التصنيف في أواخر القرن الرابع، فلم يحاول الجاحظ أكثر من توكيظ القول في
الفصاحة والكشف عنها على ما بقي بالابتداء في هذا المعنى، إذ كان هو الذي ابتدأ التأليف فيه ولم تكن علوم البلاغة قد وُضعت بعد.
بَيدَ أن أول كتاب وضع لشرح الإعجاز وبسط القول فيه على طريقتهم في التأليف، إنما هو فيما نعلم كتاب (إعجاز القرآن) لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتوفي سنة 306 هـ، وهو
كتاب شرحه عبد القاهر الجرجاني شرحاً كبيراً سماه (المعتضد) ، وشرحاً آخر أصغر منه. ولا نظن الواسطي بنى إلا على ما ابتدأه الجاحظ، كما بنى عبد القاهر في (دلائل الإعجاز) على الواسطي،
ثم وضع أبو عيسى الرماني المتوفى سنة 382 هـ كتابه في الإعجاز، فرفع بذلك درجة ثالثة، وجاء
القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ فوضع كتابه المشهور (إعجاز القرآن) الذي أجمع المتأخرون من بعده على أنه باب في الإعجاز على حدة، والغريب أنه لم يذكر فيه كتاب
الواسطي ولا كتاب الرماني، ولا كتاب الخطابي الذي كان يعاصره، وسنشير إليه، وأومأ إلى كتاب
الجاحظ بكلمتين لا خير فيهما، فكأنه هو ابتدأ بالتأليف في الإعجاز بما بسط في كتابه واتسع،
وفي ذلك ما يثبت لنا أن عهد هذا التأليف لا يُرَد في نشأته إلى غير الجاحظ.
على أن كتاب الباقلاني وإن كان فيه الجيًد الكثير، وكان الرجل قد هذبه وصفاه وتصنَّع له،
إلا أنه لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يتحاش وجهاً من التأليف لم يرضَهُ من سواه،
وخرج كتابه كما قال هو في كتاب الجاحظ: " لم يكشف عما يَلتبِس في أكثر هذا المعنى ".