كان أبو عمرو عبد الرحمن الأوزاعي إمام المسلمين في عهد تابعي التابعين في الشام، يقول رضي الله عنه: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه فوق سماواته، ونؤمن بما جاء في كتاب الله من الصفات.
فما الذي حمله على أن يصدع بهذا، ويذكر الإيمان بأن الله فوق عرشه والإيمان بما جاءت به النصوص والآيات؟ حمله على ذلك ما فشا في زمانه من هذه البدع التي خشي منها على تلامذته وعلى زملائه أن يقعوا فيها فيكونوا منحرفين مخالفين للمعتقد السليم، والأوزاعي توفي سنة سبع وخمسين ومائة، أي: في وسط القرن الثاني.
وهو من كبار تابعي التابعين، ومثله أيضاً الإمام مالك بن أنس عالم المدينة، فإنه اشتهر عنه من الإيمان بالصفات الشيء الكثير، مثل تفسيره للاستواء بقوله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ومثلما صرح به من قوله: إن الله تعالى على عرشه، إن الله في السماء فوق عباده، وعلمه مع جميع العباد.
فإنه ما صرح بذلك إلا لما اشتهرت البدع في ذلك الزمان وكثر الذين يتحدثون بها، فكان ذلك سبباً في أن السلف رحمهم الله أوضحوا ما يعتقدونه ليكون تلامذتهم على بصيرة، وذلك لأن المبتدعة ما سكتوا بل أخذوا ينشرون عقيدتهم، فالجهمية -مثلاً- صرحوا بأن القرآن مخلوق، وأن الله تعالى لا يتكلم، ولا يحب ولا يبغض، وأن الله ليس على عرشه، وليس فوق السماء ولا فوق العرش إله يعبد، إلى غير ذلك من تصريحاتهم التي تقشعر منها الجلود، فلما سمع السلف رحمهم الله ذلك أفصحوا بما أفصحوا به.
وذكروا بأن بعض السلف رحمهم الله حبس جهمياً أو زنديقاً على هذه الزندقة، وبقي أياماً في السجن يمتحنه، فقيل له: إنه قد تاب.
فقال: ائتونا به لنسأله ونعلم هل صحت توبته أم لا.
فاختبره فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري أبائن من خلقه أم لا؟ فقال: ردوه إلى السجن فإنه لم يتب.
وذلك لأنه لابد من الإيمان بهذا الاعتقاد كله، وهو أن الله تعالى على عرشه وأنه بائن من خلقه، أي: أنه ليس مختلطاً بهم كما يقوله كثير من الجهمية والحلولية ونحوهم، تعالى الله عما يقولون، لذلك اهتم السلف رحمهم الله بأمر العقيدة.
وقد نقل شيخ الإسلام في الحموية قصة في ثلاث أو أربع صفحات عن عالم من علماء المدينة في زمن الإمام مالك، وهو عبد العزيز بن الماجشون، وإذا قرأت هذه الرسالة عرفت بذلك أن السلف رحمهم الله كانوا أولاً وقبل كل شيء يحبون العمل بالدليل ويتقيدون به، وأنهم يصرحون بما يعتقدونه ويذكرون ذلك ذكراً صريحاً، وأنهم ينكرون على المبتدعة ويضللونهم ويسفهون أحلامهم، وينكرون إنكاراً بليغاً على من رد شيئاً من أمر الله تعالى أو أمر رسوله أو خالف المعتقد السليم، ففي القرن الثاني عاش ابن الماجشون في زمن الإمام مالك، وفي ذلك دليل على أن البدع بدأت تظهر أعناقها، وبدأ أهلها يتمكنون، ولكن الحق حق، والحق وأهله أقوى وأكثر وأقوى حجة، وهذا في ذلك الزمان.
أما في آخر القرن الثاني فقد قويت بدعة الجهمية، وذلك لأنهم صاروا يقتنصون الجهلة فيلقون عليهم تلك الشبهات، فيشبهون بها على طوائف كثيرة من الجهلة وضعفاء الإيمان فيشككونهم في أمور المعتقد، فظهر في ذلك الزمان كثير من الزنادقة الذين هم منافقون وإيمانهم متزعزع، ولكن انتبه لهم الولاة والأئمة وصاروا يحذرون منهم فيقولون: فلان متهم.
فلان زنديق.
ذكروا في التاريخ أن الخليفة المهدي أحضر واحداً من أولئك الزنادقة، ولما استفصل منه وجدت قرائن ونقول كثيرة تدل على أنه منافق وليس بمؤمن، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، وشاك في أمر الله تعالى وأمر البعث، فعند ذلك أمر بقتله، فلما تحقق أنه مقتول قال: أيها الخليفة! كيف تفعل بأربعة آلاف حديث كذبتها ونسبتها إلى نبيكم وبثثتها في الناس؟ أي: أنا قد أفسدت عليكم دينكم وعقائدكم بهذه الأحاديث التي بثثتها.
فماذا قال الخليفة رحمه الله؟ قال: تعيش لها نقادها.
أي: إن الله تعالى وفق هذه الأمة أن جعل فيها علماء يميزون الأحاديث ويعرفون الصحيح من السقيم، ويميزون المكذوب من الصادق، وذلك لمعرفتهم بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولمعرفتهم بما كان يدعو إليه وبما تهدف إليه شريعته.
فهذا دليل على أن هناك من استفحل منه الشر وشكك الناس في أمر العقيدة، وبالأخص في الإيمان بالله، حيث كثر في ذلك الزمان الزنادقة الذين ينكرون وجود الله تعالى أو ينكرون البعث أو ينكرون حشر الأجساد، كالفلاسفة الذين ينكرون البعث الحقيقي، ولما كثروا اهتم بهم السلف رحمهم الله تعالى وبالغوا في الرد عليهم إلى أن قمعوا وظهر أمر الله.