إن عقيدة أهل السنة وعقيدة أئمة الحديث هي ما كان عليه سلفهم الصالح، وكلمة السلف المراد بها أهل القرون المفضلة الذين زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمران: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ، وفي حديث آخر أنه قال للصحابة: (أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم) يعني فضل الأقدمين، ولا شك أن هذا هو الواقع، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم تلقوا هذه العقيدة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، فتلقوا عنه الإيمان بالله تعالى وبوحدانيته، وبعظمة الله وبجلال ربهم وكبريائه على خلقه، ومعرفة حقوقه عليهم وما يجب عليهم، ولم يكن ذلك عن واسطة، بل أخذوه عن نبيهم مباشرة بدون واسطة، فلما كان ذلك كان هذا أكبر سبب في أن قلوبهم تمتلئ بالإيمان، فكان لذلك الأثر البليغ في كونهم كلهم صاروا على هذه العقيدة.
وبالتتبع لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين، ولا خرج على أئمة الدين، ولا انتحل نحلة مخالفة لطريقة أهل السنة والجماعة، بل الصحابة زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك عدلهم أئمة الحديث، فكلهم عدول، وما ذاك إلا لأنهم تلقوا هذا الوحي من نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتعلموا القرآن وفيه أمور العقيدة والشريعة، وتعلموا السنة، وكان تعلمهم من السنة إيضاح لما في القرآن من أمور المعتقد والغيب، ولا شك أن هذا التعلم الذي تلقوه مباشرة دليل واضح على أن الإيمان وصل إلى قلوبهم؛ حيث لم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن اتباع، سواء تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم في زمن قليل أو كثير، ومعلوم أن بعضهم منذ أسلم بمكة -كالخلفاء الأربعة- إلى أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتعلمون منه العلم والعمل، فكلما نزلت آية أو آيات علمهم، فإما أن يكتبوها وإما أن يحفظوها، ويشرحها لهم ويبين لهم ما تدل عليه، وهكذا الذين أسلموا بمكة من الصحابة الذين هاجروا معه إلى المدينة، والذين هاجروا قبل ذلك إلى الحبشة ثم إلى المدينة كلهم تلقوا علماً جماً في مكة والمدينة.
كذلك أيضاً الذين أسلموا من أهل المدينة لا شك أنهم تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم علوماً جمة فيما يتعلق بالشريعة والعقيدة، ولم يكن ذلك عن واسطة بل مباشرة، وقد يكون بعضهم عن واسطة، وذلك لأن بعضهم قد ينشغل، ولحرصهم على العلم يسألون عنه غيرهم، ذكر ذلك عمر رضي الله عنه لما كان نازلاً في العوالي، فقد كان هو وجار له من الأنصار يتناوبون الدخول، فيدخل أحدهما يوماً فيأتي بما حصل وما حدث، ويأتي الثاني في اليوم الثاني بما حدث وما حصل، ومن حرصهم على تلقي العلم أن أحدهم يكون في تجارته أو بيعه وشرائه يوماً فاليوم الثاني يتفرغ حتى يلازم النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه.
كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في المدينة يجلس في المسجد ويكون له حلقة أو حلقات ليعلمهم وينبههم ويشرح لهم، ويلقنهم ويقص عليهم، وهم مصغون إليه ويستمعون ما يقول لهم ويعقلونه، وإذا أشكل عليهم شيء استفصلوا واستفسروا عنه، فحياتهم زمن النبي صلى الله عليه وسلم كلها علم، وهكذا إذا سافروا معه لغزو أو لحج أو لعمرة لازموه ملازمة الظل ولم يتخلفوا عنه، وكل ذلك حرصاً على طاعته وتحمل شريعته ليكونوا من أهلها.
ولا شك أن هذه الملازمة القوية أثرت في قلوبهم وعقائدهم، فلذلك صارت عقائدهم ثابتة لم تتغير، إلا ما كان من المنافقين الذين ذمهم الله تبارك وتعالى وذكر نفاقهم، فجل هؤلاء المنافقين لم يكونوا من المؤمنين؛ لقول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] ، ومن صفة المنافقين ما وصفهم الله تعالى به في قوله: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] ، لكن الراسخون في العلم -خاصة المهاجرين والأنصار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه- هؤلاء ثبتهم الله تعالى ولم يتزعزعوا ولم ينقل عنهم مخالفة في أمر هذه العقيدة.