قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنه مالكُ خلقه، وأنشأهم لا عن حاجة إلى ما خلق، ولا لمعنىً دعاه إلى أن خلقهم؛ لكنه فعَّال لما يشاء ولا يُسأل عما يفعل، والخلق مسئولون عما يفعلون] .
نعتقد أن الله تعالى هو الذي خلق الخلق، وما في الوجود مخلوق إلا والله خالقه؛ إذ ليس لأحد قدرة على أن يخلق أيَّ حيوان، ولو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا بعوضة يركبوا فيها أجنحتها وأيديها ومفاصلها وما أشبه ذلك، وينفخوا فيها الروح حتى تطير لن يقدروا، إلا ما ذكر الله تعالى عن عيسى عليه السلام في قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} [المائدة:110] ، فهذا إذن من الله تعالى أن أقدر عيسى على أن يصور صورة طير من الطين ثم ينفخ فيها فتطير، وذكروا أنه كان يطير حتى إذا اختفى عن الأعين سقط ميتاً، ليُعرف بذلك الفرق بين ما خلقه الله وما خلقه عيسى بإذن الله تعالى.
أما بقية الخلق فلن يستطيعوا أن يخلقوا أصغر مخلوق، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] ، والذباب من أحقر المخلوقات ولو اجتمعوا على أن يخلقوا مثل هذا الذباب وأن يركبوا فيه مفاصله وأوصاله وسمعه وبصره وشمَّه وأسنانه وأمعاءه وأجنحته، لن يستطيعوا، بل الخلق خلق الله.
وإذا قيل: أليس الإنسان يتسبب في خلق الولد؟ نقول: إن الله تعالى هو الذي يخلق الأولاد، فهو الذي قدَّر أن هذا الاتصال بين الذكر والأنثى يسبب خلق المولود وتولُّدَه بين اثنين، فهو الذي قدَّره وهو الذي يخلقه، فليس الإنسان هو الذي يخلق أولاده، ولو كان كذلك لاختار -مثلاً- أن يكون أولاده ذكوراً، وأن يكون خلقهم حسناً تاماً، فلا يكون هناك معاق، ولا ناقص في الخلق، ولا سيئ الخلقة، وما أشبه ذلك.
فدل على أن الله تعالى هو الذي يخلقهم وهو الذي فاوت بينهم.
فمالكهم هو الذي يملكهم، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران:26] ، فالخلق كلهم ملكه وتحت تصرفه وتقديره.
خلقهم وأنشأهم، وليس لحاجة أوجدهم وأنشأهم، بل هو الغني عنهم وهم الفقراء إليه، ففي الحديث القدسي الذي في صحيح مسلم يقول الله تعالى: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالَموا، يا عبادي! كلكم ضالٌّ إلا من هديته) ، ثم قال: (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته) (كلكم عارٍِ إلا من كسوته) (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم) ، إلى آخر الحديث، فيخبر بأنه غني عنهم، وأنهم لو اجتمعوا كلهم على أتقى قلب رجل ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، وإن اجتمعوا على أشقى قلب رجل وأفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، وأنهم لن يبلغوا نفعه ولن يبلغوا ضره.
قوله: [لا عن حاجة إلى ما خلق] أي: لم يكن بحاجة إليهم، ولكن خلق الخلق وأوجدهم للابتلاء والامتحان، أوجد هذا المخلوق حتى يبلوه، قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7] ، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] .
خلق الموت والحياة وخلق هؤلاء المخلوقين وأوجدهم وقدَّر أنهم يحيَون الحياة التي يعيشونها، وقدَّر أرزاقهم، وكذلك أمرهم ونهاهم، فكل ذلك بقضاء الله تعالى وقدره.
قوله: [ولا لمعنىً دعاه إلى أن خلقهم] أي: ليس هناك دافع دفعه إلى خلقهم كما في قوله: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) .
فليس هو بحاجة إليهم، ولا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي، بل هو النافع الضار.
قال رحمه الله تعالى: [فعَّال لما يشاء ويحكم ما يريد] فما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، أراد إيجاد هذه المخلوقات، وكذلك أوجد جميع الحيوانات صغيرها وكبيرها، أوجد الدواب والحشرات والطيور والوحوش والسباع والهوام وغيرها، فهو الذي أوجدها وجعلها آية على قدرته؛ حيث خلق هذه المتضادات وأنشأها مع اختلافها، أليس ذلك دليلاً على كمال قدرته حيث خلق هذه المخلوقات وجعلها تتوالد كما يشاء؟! فمن مُشاهَد آيات الله تعالى: أن كل مخلوق إنما يلد من جنسه، فمثلاً السبع يلد سبعاً مهما كانت أحواله، ولو رُبِّي ثم رُبِّي، وقد ذكر بعض أهل القصص أن امرأة أخذت جرو ذئب فربَّته في بيتها وأرضعته من شاتها ولما كبر بدأ فعقر شاتها، مع أنه أليف لهم، فأنشأت تقول: عقرتَ شُوَيهتي وفجعتَ قلبي وأنت لشاتنا ولد ربيبُ فديت بدرنا ونشأت فينا فمن أدراك أن أباك ذيبُ إذا كان الطباع طباع سوء فليس بنافع فيها الأديب فلو غُيِّر في طباعه لا تتغير، فهو هكذا طُبع، فولد السبع يكون سبعاً، وولد بهيمة الأنعام يكون تابعاً لها، وأولاد الطيور لو جمعت منها -مثلاً- بيضة حمامة ودجاجة وعصفور وحُبارى ونعامة وجعلتها في مكان لفقَّست وصارت كل واحدة مثل أمها التي باضتها، ولا يمكن أن تتغير، هكذا خلق الله، فكل شيء يكون ولده مثله، لا شك أن هذا دليل على قدرة الله، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] .
ثم يقول: [لا يُسأل عما يفعل] أخذ ذلك من الآية في سورة الأنبياء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] أي أنه يفعل ما يشاء، ولا يجوز أن يقال: لماذا فعل الله كذا؟ بل أفعال الله تعالى لا تعلل؛ لأن الله تعالى حكيم في أفعاله.
فلا يجوز أن تسأل وتقول: لماذا خلق الله هذه الحشرة؟! وما فائدة خلق هذه السباع؟! وما فائدة خلق هذه الدواب؟! وهذه ضارة ومؤذية! وما فائدة خلق هذا الذباب؟! وما أشبه ذلك؛ فإن الله حكيم في أمره، لا يجوز أن يُسأل عن الحكمة في خلقه؛ لأنه حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد [والخلق مسئولون عما يفعلون] .
يقول: [وأنه مَدْعُوٌّ بأسمائه الحسنى] .
تقدم قريباً أنه أمرنا بأن ندعوه بأسمائه، كما قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] .
قال المصنف رحمه الله: [وموصوف بصفاته التي سمَّى ووصف بها نفسه] .
تقدم قريباً أيضاً أنه موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، وسماه ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله: [لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يوصف بما فيه نقص أو عيب أو آفة، فإنه عز وجل تعالى عن ذلك] قوله: [لا يعجزه شيء] هذه من الصفات السلبية، نقول: إنه تعالى أخبر بأنه لا يعجزه شيء، وذلك في عدة آيات، وذلك دليل على كمال قدرته، وإذا وصفناه وقلنا: لا يعجزه شيء فهذا سلب؛ لأن الصفات السلبية إنما يوصف بها إذا كانت تدل على إثبات، فهو لا يوصف بما فيه نقص أو عيب، فالصفات التي فيها نقص أو عيب لا يوصف بها، بل نزَّه الله تعالى نفسه عنها في قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] وأشباه ذلك.