قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنه عز وجل استوى على العرش بلا كيف، فإن الله انتهى من ذلك إلى أنه استوى على العرش، ولم يذكر كيف كان استواؤه] .
هذه صفة أيضاً، والصحيح أن الاستواء صفة فعلية، وذلك لأننا نعتقد أن العرش مخلوق، وإذا كان العرش مخلوقاً فإن الله تعالى استوى عليه بعدما خلقه، ونعتقد أن العرش سرير لا يعلم قدره إلا الله، كما ورد فيما رواه ابن جرير في تفسير آية الكرسي عن زيد بن أسلم وأبي ذر، في تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] قال: (ما السموات السبع والأرضون السبع إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) السموات مع عظمها والأرضون مع عظمها كدراهم -والدراهم هي قطع صغيرة من الفضة- ألقيت في ترس، والترس هو المجن الذي يوضع على الرأس.
فماذا تشغل الدراهم من هذا الترس؟ ثم قال: (والكرسي في العرش كحلقة ألقيت في أرض فلاة) ، والحلقة هي القطعة من الحديد المتلاقية الطرفين، فإذا ألقيت في أرض فلاة فماذا تشغل من الأرض؟ إذا كان هذا مقدار الكرسي بالنسبة إلى العرش فماذا يكون مقدار العرش؟ ثم الله تعالى الذي استوى على العرش أعظم من أن يوصف وأن يحدد بكيفية أو نحو ذلك.
فنحن نقول: استوى على العرش كما أخبر ولا نكيف الاستواء، ولا نكيف سائر الصفات كاليد ونحوها.
ومشهور عن الإمام مالك رحمه الله أنه جاءه قائل فقال: أرأيت قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علته الرحضاء -أي: العرق-، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك يا هذا إلا مبتدعاً.
ثم أمر به فأخرج.
وفي رواية: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول.
وروي مثل هذا أيضاً عن شيخه ربيعة أنه قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
وكأن مالكاً أخذ هذا الأثر من شيخه الذي تعلم عليه الكثير من العلوم، وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن من كبار التابعين.
وقد روي هذا الأثر أيضاً عن أم سلمة، والصحيح أنه موقوف عليها وإن روي مرفوعاً، ومعناه أن الاستواء معلوم معناه وظاهر، ولأجل ذلك فسره العلماء، فهو معروف يفسر ويوضح ويترجم من لغة إلى لغة، ولكن للاستواء كيفية، وهذه الكيفية هي التي نقول: إنها مجهولة.
فنتوقف عن الكيفية ونفسر اللفظ بما يليق بالله تعالى.
وهكذا بعضهم يقول: استوى استواء يليق به.
ويتركون الإيضاحات، وأكثرهم يفسرونه، فـ ابن جرير كلما مر بآية من آيات الاستواء يفسرها بالعلو والارتفاع، ((استوى على العرش)) أي: علا وارتفع، وذلك استناداً منه إلى المعنى المعروف في اللغة، وأن هذا هو التي تدل عليه هذه اللفظة.
وكذلك تفسر بالاستقرار، ((استوى على العرش)) يعني: استقر عليه.
وقد تكلم المبتدعة على قوله: ((ثم استوى على العرش)) وبالغوا في ذكر إيرادات وشبهات يموهون بها على من يفسر هذا الاستواء بالاستقرار، وتجد ممن يبالغ في سردها الخطيب الرازي صاحب التفسير الكبير، ويقال له: ابن خطيب الري.
فإنه لما تلكم عليها في سورة الأعراف أورد عليها شبهات يموه بها، ثم يقول يرد عليها: زيفت بوجوه منها كذا وكذا، ومنها كذا وكذا.
ومنها كذا وكذا، ولما انتهى من ذكر الوجوه التي أوردها على تفسير الاستواء بالاستقرار بعد ذلك ذكر التفسير الذي يختاره، ثم ذكر أن السلف كانوا يفوضونها ويسكتون ولا يتكلمون، وهذا ليس بصحيح، ثم ذكر أن الخلف كانوا يفسرونها، وتفسيرهم لها في الحقيقة تأويل، يعني: صرف لها عن ظاهرها.
فذكر أن بعضهم فسر الاستواء بالاستيلاء، فمعنى (استوى) أي: استولى.
وبعضهم فسر العرش بأنه الملك، وأطالوا في ذلك، ولا حاجة بنا إلى مناقشتهم، وقد رد عليهم العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك ابن القيم في (الصواعق) ، وكذلك ابن أبي العز في (شرح الطحاوية) ، ردوا عليهم وبينوا شبههم.
والحاصل أن الله تعالى ذكر الاستواء وقال: ((استوى على العرش)) .