قال المصنف رحمه الله: [يعتقدون -يعني أهل السنة أهل الحديث- أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، وموصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم] .
هذه الجملة كررها كما سيأتي، وعقيدة أهل السنة إثبات أسماء الله تعالى، وكذلك دعاؤه بها، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] ، والأسماء الحسنى هي التي سمى الله بها نفسه، وهي التي بلغت النهاية في الحسن، فهي حسنة كلها ليس فيها ما هو غير حسن وما هو موصوف بالقبح.
ووردت أحاديث كثيرة في ذكر بعض الأسماء الحسنى، مثل التسعة والتسعين التي ذكرت في بعض الأحاديث، روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة) ، فلما روى هذا الحديث عمد بعض الرواة وجمعوها من القرآن، فبلغت تسعة وتسعين اسماً، وأخذوا الأسماء التي في آخر سورة الحشر {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:22-24] ، ثم جمعوا من مواضع من القرآن الغفار، والقهار، والوهاب، والعليم، والقابض، والباسط، والرزاق، والفتاح، والعليم إلى آخرها.
ولكن الصحيح أن أسماء الله تعالى لا تحصر في هذه التسعة والتسعين، بل أسماء الله كثيرة وليست بهذا المقدار، والدليل على هذا ما رواه أحمد رحمه الله، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب أحدكم هم أو غم فليقل: اللهم! إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً) ، فذكر في هذا الحديث قوله: (أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فدل على أن الله سبحانه له أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده ولم يطلع عليها أحداً.
أما الدعاء بها فهو فهم سؤال الله بأسمائه، وجعل الأسماء وسيلة، إذا أردت أن تدعو الله فإنك تقدم بين يدي الدعاء ذكراً للأسماء، فتقول: يا رحيم! يا رحمن! ارحمنا برحمتك.
يا عزيز! يا غفور! اغفر لنا بواسع رحمتك.
وهكذا تدعوه بأسمائه، فتقول في كل اسم: يا عزيز.
يا رحمن.
يا ملك.
يا قدوس.
فهذا معنى (فادعوها بها) ، ويمكن أن يكون الدعاء هو أن يقدم بين يديه الثناء على الله تعالى بها، وأفضل ما يثنى به عليه ذكره بأسمائه الحسنى.
وقد أكثر العلماء من الكلام في أسماء الله، فتكلم عليها الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في كتابه المطبوع: (الأسماء والصفات) ، وقد طبع هذا الكتاب قديماً بتحقيق زاهد الكوثري، ولكنه أفسده وحرفه وحمله محامل بعيدة.
ثم أعيد طبعه بتحقيق بعض العلماء المخلصين من أهل السنة، وسلم من تلك التعليقات التي أفسدته، ونبه المحقق على الأخطاء التي وقع فيها البيهقي والتأويلات، وعلى تحريف ذلك المعلق الأول الكوثري.
وكذلك نظمها كثير من العلماء، مثل قول بعضهم: أيا طيب الأسماء يا من هو الله ومن لا يسمى بذلك الاسم إلا هو ونظم التسعة والتسعين في أبيات على هذا النمط، وكذلك سردها كثير من العلماء، ومنهم ابن القيم في كتابه (الصواعق) ، ومن المتأخرين حافظ الحكمي في (معارج القبول شرح سلم الأصول) ، وغيرهم ممن تكلم على أسماء الله تعالى وسردوا ما وقفوا عليه.
وبعضهم أخذ أسماء وردت في بعض الأحاديث وإن لم يصدق أنه يسمى بها، كـ ابن حزم في (المحلى) ، فإنه تتبع الأسماء التي وردت في الأحاديث، وذكر أسماء لا يليق أن يتسمى الله بها؛ لكونها وردت في الأحاديث، مثل قوله في الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر) ، فجعل الدهر من أسماء الله مع أن الدهر هو الزمان، قالوا في معنى (وأنا الدهر) : أي: وأنا المتصرف في الدهر.
أمَّا الصفات التي ذكرها الله أو وصف بها نفسه على وجه المقابلة فلا يجوز أن يشتق لله منها اسم كما اعتقد ذلك بعضهم، مثل قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ، فلا يقال: من أسمائه المخادع.
ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] ، فلا يقال: من أسمائه المستهزئ.
ومثل قوله: {وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق:16] ، فلا يجعل من أسمائه الكائد، وكذلك الأفعال التي ذكرها عن نفسه، مثل قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] فلا يقال: من أسمائه الجائي.
أو: {أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ} [البقرة:210] فلا يقال: من أسمائه الآتي.
أو في قوله: {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر:3] فلا يقال: من أسمائه المعذب وما أشبه ذلك.
ثم من أسمائه ما لا يجوز ذكره مفرداً إلا مع المقابل له، وهي الأسماء المزدوجة، مثل الخافض الرافع، المعز المذل، فلا يقتصر على واحد؛ لأنهما متقابلان، وكذلك المعطي المانع، وأشباه ذلك، نبه على هذا كثير من العلماء، ومنهم الشيخ آل سلمان في كتابه: (الكواشف الجلية في شرح العقيدة الواسطية) وغيره.
أما كلامه عن صفات الله بأنها هي التي [سمى ووصف بها نفسه ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم] ، فهذه العبارة يذكرها جميع أهل السنة في مؤلفاتهم، فيقولون: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم.
ويعللون ذلك بقولهم: إنه تعالى أعلم بنفسه وأعلم بغيره، فإذا كان أعلم بنفسه وأثبت لنفسه صفاتاً فإنا نثبتها ولا نتحاشى من إثباتها، بل نؤمن بها حقاً ونعتقد صحتها وموافقتها لعقيدة المسلمين مهما شنع المشنعون أو أنكر المنكرون، وسيأتي لنا أمثلة لها، وكذلك ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه أعلم بربه، وبمن أرسله، فالله تعالى خصه بالرسالة وأطلعه على ما أطلعه من العلم، وكلفه بالبيان وبالبلاغ، فلابد من أنه عالم بربه وعالم بما يجوز على الله تعالى، فإذا أثبت لله تعالى صفة أو صفات فإنا نتقبلها ولا نردها؛ لأننا إذا رددناها فقد رددنا ما بلغه أو جاء به، فنكون من الذين لم يتبعوه ولم يتقبلوا سنته، فلا يتحقق لنا الاتباع في قوله: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] .
وقد سرد شيخ الإسلام ابن تيمية في أول كتابه (العقيدة الواسطية) في ثلاث ورقات آيات فيها الصفات، والأسماء، فيسرد مثلاً آيات العزة، ثم يأتي بآيات الحكمة، ثم الرحمة، ثم الأفعال، كآيات المكر والكيد والأسف في قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف:55] ، وكذلك آيات الكلام، والمجيء، والاستواء، والعلو، والمعية، وما أشبهها، وكذلك الأحاديث التي ورد فيها شيء من الصفات، مثل أحاديث النزول، والضحك، والعجب، والفرح، والأسماء، والأفعال، والرؤية، وما أشبهها، وكلها نتقبلها، وذلك لأن الذي بلغها هو الذي بلغ الرسالة كلها، فإذا قبلنا الأحكام أو الصلاة والصيام والحج والجهاد ونحوها فإننا نقبل العقيدة التي هي أساس الأعمال، والتي صحتها شرط لقبول الأعمال، فنقبل ما جاءنا من الآيات والأحاديث في أمر صفات الله تعالى حتى تصح عقيدتنا ثم تصح أعمالنا وتتقبل.