قال المصنف رحمه الله تعالى: [إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة] .
نعرف أن الله تعالى يأمرنا دائماً باتباع كتابه، ويحثنا على اتباع سنة نبيه، ويذكر عاقبة من اتبع هذا النبي وحسن العاقبة له، مثل قول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3] .
والاتباع هو السير على نهجه، أي: سيروا على منهجه وطبقوه واعملوا به.
والأصل في الاتباع أنه اتباع الآثار، فإذا سار رجل على طريق ثم سرت عليه تقول: اتبعت أثر فلان.
واتبعت فلاناً في مذهبه أي: ذهبت إلى ما ذهب إليه.
ثم أطلق الاتباع على التطبيق للأعمال، فالله تعالى أمرنا باتباع الكتاب والسنة، وأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الاتباع هنا هو الاتباع بالأعمال الصالحة، بمعنى: السير على نهجه وتطبيق سنته والعمل بما أمر به.
هذا معنى قوله: [إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة] .
وقد وردت الأدلة باتباع الكتاب والسنة في آيات كثيرة، مثل قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، (اتبعوني) بمعنى: أطيعوني.
والاتباع معناه: الاقتداء به.
وهو أيضاً التأسي، كما هو في قول الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، وكذلك قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] ، فرتب الاهتداء على الاتباع، ويفهم منه أن ترك الاتباع له ضلال، فالاهتداء ضده الضلال، فمن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم اهتدى، ومن ترك اتباعه واتبع هواه ضل.
وكثيراً ما يذكر الله تعالى ضلال من اتبع هواه، كما في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] أي: اتبعوا ما تهواه أنفسهم، {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] أي أنه لا يهوى شيئاً إلا ركبه.
فالذين يتبعون أهواءهم هم الضالون، والذين يتبعون السنة والكتاب هم المهتدون، وهذا معنى قوله: [مضموناً لهم الهدى فيهما] .
يعني: ضمن الله الهدى لمن اتبع كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] ، والأدلة كثيرة في ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [مشهوداً لهم بأن نبيهم صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم] .
يعني: يدل على الصراط ويحث على سلوكه، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الشورى:52-53] ، وصراط الله الذي أمر بسلوكه بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فصراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض بينه النبي صلى الله عليه وسلم وهدى إليه، فمن سار عليه فإنه من المهتدين، ومن أخطأه فإنه من الضالين.
والأصل أن الصراط هو الطريق الواسع الذي يسلكه الناس ولا يضيق بهم، ومنه سميت السبل طرقاً وسبلاً يسار عليها، فسبيل الله واحد، وهو الذي بينته الرسل وبينه النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ، وفي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط منحرفة يميناً ويساراً، فأشار إلى الخط المستقيم ثم قال: هذا صراط الله -يعني الصراط المستقيم- وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ هذه الآية من سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] ) .
والصراط الذي يهدي إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو دين الله الذي جاء به وبلغه، فمن سار عليه فإنه على الهدى المستقيم، ومن اتبع بنيات الطريق هلك وضل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (على كل سبيل منها شيطان) هذه السبل هي البدع والمحدثات التي أحدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الذين يدعون إليها إما شياطين الجن وإما شياطين الإنس، فهؤلاء شياطين يدعون إلى طريق الروافض، أو المعطلة، أو الجبرية، أو الخوارج، أو المرجئة، وهكذا.
وكذلك أيضاً الطرق والمناهج المحدثة، فهؤلاء يدعون إلى الكفر، وهؤلاء إلى النفاق، وهؤلاء إلى الشيوعية، وهؤلاء إلى البعثية، وهؤلاء إلى العلمانية، وهكذا.
قال المصنف رحمه الله: [محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم] أخذ هذا من الآية التي في آخر سورة النور: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] بعد أن أمر الله تعالى بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم وبعدم الخروج إلى شيء إلا بإذنه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ} [النور:62] ، ثم قال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ، وقد يكون سبب النزول خاصاً، وهو أنه ينهاهم فيقول: اجلسوا هاهنا فيخالفونه ويجلسون في غيره، يقول لهم: الزموا هذا المكان، واحفروا هنا في الخندق فيتركون أمره ويخالفونه، ولكن الآية عامة يدخل فيها كل من خالف سنة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما هو مشهور عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قوله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك) .
وهكذا يمثل رحمه الله في زمانه أناساً يقلدون سفيان الثوري ويتبعون رأيه -مع أنه مجتهد ومحدث- وهم يعرفون الأحاديث، فيتعجب منهم الإمام أحمد: كيف تعرفون الأحاديث وتقلدون الرجال؟ ألستم بذلك مخالفين للنبي صلى الله عليه وسلم؟! تعرفون أمره ثم تتركونه لرأي فلان وفلان، هذه هي المخالفة، وإذا خالفتموه فلا تأمنوا أن تصيبكم فتنة أو يصيبكم عذاب أليم.