ذكر المؤلف في الوصايا التي ختم بها عقيدته الإعراض عن الجاهلين.
والمراد بالإعراض عنهم عدم عتابهم وعدم الأخذ عليهم ما داموا جاهلين، ولكن لابد أن نعلمهم حتى يزول الجهل، ولا نتركهم على جهلهم، ولا نعرض عنهم دائماً، بل نبدأ بتعليمهم ونوصيهم بالتعلم، ولكن إذا أصروا وعاندوا ولم يقبلوا فإن الإعراض عنهم أولى حتى يشعروا من أنفسهم بالنقص، قال الله تعالى في صفة بعض أوليائه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] ، هكذا حكى الله عن بعض أوليائه، واللغو هو الذي يسمعونه من الكلام الباطل أو السيئ الذي يعمرون به المجالس من خوض فيما لا فائدة فيه ولا أهمية له من صياح ولغط ونحو ذلك، فأولياء الله الصالحون إذا سمعوا هؤلاء اللاغين أعرضوا عنهم، ثم نصحوهم وقالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} ، أي: نحن بريئون منكم ومن أعمالكم التي منها هذا اللغو {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ، وهذا دليل على أن أولئك الذين يخوضون في اللغو جاهلون.
وكذلك أيضاً أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أمر المؤمنين بالإعراض عن مجالس اللهو والباطل والاستهزاء والسخرية وما أشبهها، فأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] .
يعني: إذا لم تستطع أن تردهم وترشدهم وتهديهم إلى الصراط السوي وتدلهم عليه وتصرفهم عن هذا الخوض في آيات الله باستهزائهم بها فاجتنبهم ولا تجلس معهم حتى يخوضوا في حديث غيره.
وهذه الآية نزلت في مكة خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان الخطاب -بغير شك- يعم جميع المؤمنين، فكأن المؤمنين لم يعملوا بها أو بعضهم، فعاتبهم الله في سورة مدنية فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140] ، فعاتبهم عتاباً أشد من العتاب الأول بقوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} يعني: إذا جلستم معهم وهم يخوضون في آيات الله فإنكم تكونون شركاء لهم في هذا الاسم.
فهذه الآية عامة، فإذا جلست مع أناس في مجلس ورأيتهم يستهزئون ويسخرون بالملتزمين وبأهل الدين، أو يسخرون ببعض شعائر الإسلام ويلوكون بها ألسنتهم ويتنقصون بعض الشعائر وبعض أهل الخير ويعيبونهم بكذا وكذا، ويعيبون أهل الدين بجهلهم به كما عابت الكفار من جاء من مضر بأنهم رجعيون لم يتمسكوا بنص من الوحيين جاء به الأثر، فهؤلاء إن قدرت على أنك ترد عليهم وتبطل ما يقولونه وتقنعهم بأنهم على شر وأن عملهم عمل سيئ فإنك تفعل، أما إذا لم تقدر على ذلك فقم عنهم، وقل: إني بريء منكم لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمله وأنا بريء مما تعملون.
فقم عنهم واترك مجالستهم حتى تسلم من الإثم ولا تعمك هذه الآية: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} .
فالحاصل أن الله تعالى أمر بالإعراض عن الجاهلين حتى يتعلموا ويُبين لهم الحق، فإذا أصروا على جهلهم وعنادهم فيجب الإنكار عليهم، والعقوبة بعد البيان، وذلك لأنهم بعد البيان إذا أصروا على التجاهل كانوا ليسوا بجهلة ولكنهم مارقين.
والناس من حيث العموم أربعة أقسام، كما ذكروا ذلك عن الخليل بن أحمد، ذكروا أنه كان مرة يُقطع أبياتاً من الشعر، فاستهجنه ابنه فقال لتلامذته: إن أبي أصابه هوس أو جنون.
فدخلوا عليه فذكروا ذلك له، فقال: الناس أربعة: الأول: عالم ويدري أنه عالم، فهذا كامل فسودوه.
الثاني: عالم ولا يدري أنه عالم، فهذا غافل فنبهوه.
الثالث: جاهل ويدري أنه جاهل، فهذا مسترشد فأرشدوه.
الرابع: جاهل ولا يدري أنه جاهل، فهذا مارق فاتركوه.
وهو شر الأقسام، ويسمى الجاهل المركب الذي يكون جاهلاً ويدعي أنه عالم، يقول بعضهم في وصفه: لما جهلت جهلت أنك جاهل جهلاً وجهل الجهل داء معضل ويقول الآخر: ومن أعجب الأشياء أنك لا تدري وأنك لا تدري بأنك لا تدري تعتقد أنك عالم وأنت في الحقيقة جاهل، وبين الجاهلين تقلب.
فالحاصل أنا نعرض عن الجاهلين حتى يتعلموا ويبين لهم الحق، فإذا تعلموا وبُين لهم الحق ففي ذلك الوقت لا نتركهم، بل نُنكر عليهم ونعاقبهم ونقيم العذر بينهم، ونأخذ الحق منهم، وما دموا جاهلين فإننا نرشدهم ونعلمهم.