إن الإنسان مأمور بأن يتحصن ويحتفظ من أسباب الردى ومن أسباب الهلاك، وهذا التحصن والتحفظ مكتوب أيضاً قبل أن يخلق، مكتوب أنه سوف يعمل كذا وكذا من أسباب الحفظ والتحصن، وأنه يصاب بمرض كذا وكذا فيتعالج بالعلاج الذي يبرأ به ويزول عنه هذا المرض، ومكتوب -أيضاً- أنه سوف يتحفظ ويتحصن إذا دخل ميدان القتال أو دخل المعارك، ويكون تحصنه سبباً في وقايته، وهو مأمور بأن يأخذ حذره، ولأجل ذلك يكرر الله الأمر بالتحفظ فيقول تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء:102] .
يعني: احتياطاً ويقول تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] ، أمرهم بأن يأخذوا أسلحتهم وأن يكونوا حذرين، ولو كان الله قد قدر أنهم يصابون بكذا وكذا فإن هذا مأمور به وهو من الأسباب.
وكذلك يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ، فالإعداد مأمور به ولو كان قد قدر الله تعالى انهزاماً أو موتاً أو غلبة، والله تعالى قادر على أن يقتل المشركين بدون جهاد أو قتال، ولكن من حكمته أنه شرع لنا الجهاد حتى يكون ذلك سبباً من أسباب الانتصار، مع أنه قادر على أن ينصر عباده بدون قتال، وأن يخذل أعداءه بدون أن يقاتلهم المسلمون، يقول تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] ، فهو قادر على ذلك، ولكن من حكمته أنه شرع هذه الشرائع وقدر فيها هذه الآجال.
فالحاصل أنَّا إذا قلنا: إن عمرك -أيها الإنسان- مكتوب فلا تقل: ما دام كذلك فإنني لا أفعل شيئاً، بل أستسلم لأمر الله تعالى.
نقول: أنت مستسلم لأمر الله، وأمر الله نافذ فيك ولو فعلت ما فعلت، ولكن أنت مأمور بهذه الأسباب التي تكون سبباً من أسباب حياتك ووقايتك، ومعلوم أنك مأمور بأن تأكل وتشرب، وأن تركك لذلك إضرار بنفسك، وأنه سبب من أسباب الموت، ولكن مكتوب عليك أنك تأكل وتشرب.
ومأمور أيضاً بأن تتوقى الحر والبرد، ولا تعرض نفسك لشدة الحر الذي يكون سبباً في الموت، ولا لشدة البرد الذي يكون سبباً في القتل ونحوه، ومنهي أن تفعل سبباً يودي بحياتك، فلا يجوز لك أن تلقي بنفسك من شاهق، ولا أن تطرح نفسك في بئر، كما لا يجوز لك أن تطعن نفسك وأن تقتلها وتقول: هذا مكتوب عليَّ وهذا عمري.
بل أنت مأمور بأن تتوقى الأسباب التي فيها ضرر على نفسك، وفعلك لها وتوقيك لها مكتوب أيضاً وهو مقدر.
وقد ورد في الحديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أرأيت رقىً نسترقي بها وأدوية نتداوى بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله) يعني: هذه الأدوية التي تتداوى بها وتتعالج بها هي مقدرة، ومكتوب أنك سوف تصاب بمرض كذا وأنك تتعالج بالعلاج الفلاني ويكون سبباً في شفائك ولذلك ورد في الحديث الأمر بالتداوي: (تداووا عباد الله؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا أنزل له دواء) .
فنحن مأمورون بالتداوي والمرض والعلاج مكتوب، ومكتوب أن هذا يتداوى بكذا حتى يسلم، وهذا يصاب بكذا ولا يؤثر فيه العلاج وما أشبه ذلك، كل هذا داخل في تقدير الآجال، وأن الله تعالى أجل لكل حي ومخلوق أجلاً فهو بالغه، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، فإذا مات أو قتل فإنه مات عند انتهاء أجله، فالمقتول ميت بأجله، سواء قتل في الجهاد، أو ظلماً، أو بحادث أو نحو ذلك، كل ذلك مكتوب، وليس له أن يتجاوزه، وهو مع ذلك مأمور بالتحفظ وبالتحصن حتى لا يلقي بنفسه إلى التهلكة.