نقول بتفضيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكذلك أيضاً بقية الخلفاء، وذلك لأن الرافضة صاروا يطعنون في الصحابة كلهم لا يستثنون منهم إلا عدداً يسيراً كـ عمار وصهيب وسلمان وعدداً يسيراً من الموالي يدعون أن هؤلاء هم الذين بقوا مع علي، وأما البقية فإنهم ارتدوا لما لم يبايعوا علياً، فصاروا يطعنون في الصحابة ويشتمونهم، ويستنكرون جميع ما ورد فيهم من الأدلة التي تدل على فضلهم.
وقد استدل الرافضة على قولهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) ، فالرافضة يقولون: إن الصحابة أحدثوا بعده.
أي أن من حدثهم كتمانهم -بزعم الرافضة- الخلافة التي لـ علي أو الوصية التي لـ علي، وبهذا الكتمان صاروا بذلك محدثين مرتدين.
مع أنَّا نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين قاتلوا المرتدين، وأنزل الله تعالى فيهم الآيات، ومنها آية سورة المائدة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] ، هكذا وصفهم بست خصال، من هؤلاء؟ هم الصحابة الذين قاتلوا المرتدين من العرب الذين ارتدوا حول المدينة، ثبت هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم بالمدينة وبمكة وبغيرها من القرى التي حولها، ثبتوا رغم كثرة من انحرف وارتد، فقاتلوا أولئك الذين ارتدوا حتى ردوهم إلى الإسلام.
وشهد الله لهم بأنهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وأنهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] متواضعين لبعضهم، و: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] ، وكذلك قوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] ، وهذه الصفات تنطبق على الصحابة رضي الله عنهم، وقد جحدها الرافضة وادعوا أن هذا ليس وصفاً لهم.
وأنزل الله فيهم أيضاً آيات في آخر سورة الأنفال، وهي قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] ، فمن تنطبق عليه هذه الآيات؟ ذكر الله تعالى فيها الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا، هؤلاء هم المجاهدون، ثم ذكر فيها الأنصار {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال:72] ، فالأنصار والمهاجرون هم الذين تضمنتهم هذه الآية {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] ، فالذين لم يتولوهم ماذا تقول فيهم؟ تقول: ليسوا منهم، وليسوا من المؤمنين ولا من أولياء المؤمنين، بل هم برآء منهم.
فالرافضة الذين يتبرؤون منهم يتصفون بهذه الصفات -أنهم ليسوا منهم- ويدخلون في النص الذي بعده: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:74] ثم قال تعالى في وصف الصحابة مرة أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:74] ، كل هذا وصف للمؤمنين وشهادة لهم.
والرافضة يقولون: إن هذه الفضائل التي مدحهم الله بها بطلت بردتهم؟! وهل الله تعالى يمدحهم وهو يعلم أنهم سيرتدون؟! أليس الله عالماً بمن يستحق المدح؟! لو كانوا سيرتدون ما مدحهم الله تعالى ولا أثنى عليهم هذا الثناء، فإن الله عالم بمن يموت على الإسلام ومن يموت مرتداً.
فهذه هي القاعدة عند الرافضة، أن فضائل الصحابة بطلت بردتهم، وهذه الحجة واهية؛ فإن الله تعالى لا يمكن أن يمدحهم هذا المدح وهو يعلم أنهم سيرتدون في وقت من الأوقات وستحبط أعمالهم، فالله تعالى عالم بكل شيء.
ثم نقول للرافضة: هذا تنقص منكم لله تعالى؛ إذ معناه أن الله لا يعلم الأمور المستقبلة، فيمدحهم وهو لا يعلم أنهم سوف ينقلبون ويرتدون ويكفرون بعد ذلك وسوف ينقضون بيعتهم.
واستدل المؤلف بهذه الآية في سورة الفتح: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] رضي الله عن الذين بايعوه تحت الشجرة وهم أكثر من ألف وأربعمائة، ومنهم الخلفاء الراشدون، والعشرة وأجلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بايعوه على أن لا يفروا، وقيل: إنهم بايعوه على الموت.
والمعنى متقارب، كأنهم يقولون: نبايعك على أن نقاتل فنقتل أو ننتصر ولو أدى ذلك إلى الموت، وعلى أننا لا نفر ولو قتلنا واحداً بعد واحد.
هذا الرضا معناه أن الله تعالى رضي أعمالهم وأقوالهم، وعلم سعادتهم وأهليتهم فصرح بأنه رضي عنهم.
ومن العجائب أني رأيت لبعض الرافضة في هذا الزمان رسالة بعنوان (المراجعات) ، ومن عجائبها أنه لما ذكر هذه الفضيلة قال: اقرءوا ما قبلها، إن الله تعالى ذكر أنهم سوف يرتدون، فالله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10] ، فيقول: هذا دليل على أن منهم من نكث.
فهل هذا صحيح؟! هل في الآية دليل على أن فيهم من ينكث أو من نكث؟! إنما أخبر الله بأن من نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى فإنما يوفي لنفسه، وليس فيها أن أنهم نكثوا كلهم كما تقوله الرافضة، إنما فيها الإخبار بأن الذين يبايعونه فإنهم يبايعون الله، ثم أيضاً ليست هي بيعة الرضوان، بل البيعة العامة؛ إذ كل من جاء مسلماً فإنه يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى يخبرهم ويقول: أيها المؤمنون الأعراب وأهل الحضر والصغار والكبار والنساء والرجال! أنتم تبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ولكن احذروا إذا نكثتم، فإن نكثكم على أنفسكم وضرركم بهذا النكث يعود عليكم فخذوا حذركم.
ومعلوم أن هناك من بايع من الأعراب ثم نكث وارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً فليست الآية يراد بها أهل بيعة الرضوان؛ لأن أهل بيعة الرضوان ثبت رضا الله تعالى عنهم، فلا يمكن أن يسخط عليهم بعده أبداً؛ لأنه إذا حل رضاه على قوم فلا يسخط بعده أبداً.
ثبت أيضاً في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ، ولما كان في غزوة حنين وتقابلوا مع هوازن، وكانت هوازن معها نبال شديدة انهزم الكثير من الصحابة، فعند ذلك أمر العباس بأن يصيح وينادي: يا أصحاب الشجرة.
فلما سمعوا ذلك قالوا: لبيك لبيك.
ولووا أعناق رواحلهم وجاؤوا مسرعين نحو الصوت، تذكروا هذه البيعة، ولا شك أن هذا دليل على أنهم أوفياء بما عاهدوا الله تعالى عليه.
كذلك هذه الآية في سورة التوبة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:100] هذه الآية ذكر الله تعالى فيها نوعين من الصحابة، الأول هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والثاني هم الأتباع من المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة أو من غير مكة من القرى إلى المدينة، والأنصار هم الذين أسلموا من أهل المدينة ونصروا الله تعالى ورسوله.
{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] قيل: إن المراد الذين أسلموا بعد الفتح، وقيل: الذين أسلموا بعد صلح الحديبية.
وقيل: المراد الذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة.
أي: ساروا على طريقتهم، وتمسكوا بسنتهم فهؤلاء جميعهم من أتباعهم، فهؤلاء المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم، فما أعظمها من فضيلة أن يرضى الله تعالى عنهم وأن يثبت الله تعالى رضاه عنهم.
إذاً من أثبت الله رضاه عنهم لم يكن منهم بعد ذلك ما يوجب سخط الله، ولا يمكن أن يثبت الله أنه رضي عنهم وهو يعلم أنهم سيسخطون ربهم فيما بعد ذلك، ولم يوجب للتابعين ذلك إلا بشرط الإحسان فقال: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) ، ولم يقل: اتبعوهمَ فقط، بل: (بِإِحْسَانٍ) ، فأوجب للمحسنين من أتباعهم الرضا، فمن كان من التابعين ومن بعدهم يتنقصهم لم يقم بالإحسان، ولم يكن حرياً بالإحسان، فلا مدخل له في ذلك، فالذين جاؤوا من بعدهم ولكنهم يتنقصونهم ويعيبونهم ويقدحون في خلافتهم لا شك أن مثل هؤلاء لم يتبعوهم بإحسان بل اتبعوهم بإساءة.
فأساؤوا صحبتهم، وأساؤوا سمعتهم، وسبوهم وتنقصوهم، فأين هم من الإحسان؟! ليسوا من أهل الرضا.
يقول: [ومن غاظه مكانهم من الله فهو مخوف عليه ما لا شيء أعظم منه] .
الذي يغيظه مكانهم كافر، دليل ذلك هذه الآية في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] ، ثم وصفهم بصفات فقال: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] هكذا مثلهم الله، {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] .
فنقول: أي