مسألة رؤية المؤمنين لربهم في القيامة وفي الجنة من المسائل التي طال الجدال فيها والنزاع مع المعتزلة ومن على طريقتهم، وذلك لأن سلف الأمة وأئمتها عملوا بالسنة وبالأحاديث التي ثبتت عندهم في رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، واعتقدوا ذلك اعتقاداً صحيحاً، واعتقدوه ديناً، واستدلوا عليه بالآيات وبالأحاديث الصريحة، وبالنقول عن السلف الصالح، وذكروا ذلك في معتقداتهم.
فذكره الإمام الشافعي واستدل له بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، وذكر الرؤية الإمام أحمد واستدل له بقوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] ، وبالأحاديث، وذكرها الطحاوي في عقيدته، والإسماعيلي في هذه العقيدة، والدارمي في مقدمة سننه، وعثمان بن سعيد في رده على الجهمية، وأكثر أئمة السلف الذين لهم مؤلفات نصوا على الرؤية وأثبتوها، وخالفهم في ذلك المعتزلة ومن على شاكلتهم.
وكان من جملة ما استدلوا به قول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، فيرددون هذه الآية دليلاً على أنه لا يُرى، وقد استدل بها أهل السنة على أنه يُرى، حتى الأشاعرة جعلوها دليلاً على إثبات الرؤية، وقالوا: إن الإدراك شيء زائد على الرؤية، فإنه لم يقل: لا تراه.
بل قال: (لا تدركه) ، والإدراك هو إدراك الماهية وليس هو الرؤية.
وذكر عن ابن عباس أنه سُئل عن هذه الآية فقال: ألست ترى القمر؟ قال: بلى.
قال: أكله؟ قال: لا.
قال: فذلك الإدراك.
فنحن نرى القمر ولكنا نرى ما يقابلنا منه، ونراه أيضاً صغيراً مع أنه كبير، ومع ذلك لا ندرك ماهيته، ولا ندرك من أي شيء هو، هل هو تراب أو حجارة؟ لا ندري ما هيته، فذلك هو الإدراك.
والمعنى أن الأبصار إذا رأته فإنها لا تحيط به.
الحاصل أن الآية دليل على إثبات الرؤية، كأنه يقول: متى رأته الأبصار فإنها لا تحيط به، وذلك دليل على عظمته وكبريائه، فأصبحت الآية دليلاً لأهل السنة لا دليلاً عليهم.
وأكثر ما يتشبث به المعتزلة ونحوهم دليل العقل، حيث جعلوا العقل دليلاً، وقالوا: إن إثبات الرؤية يستلزم المقابلة، ويستلزم تحديق الأبصار وتقليبها نحو الخالق، أن يكون في جهة مقابلاً للناظرين، وهذا -في زعمهم- من المحال.
وليس فيما أخبر الله شيء تحيله العقول، بل كل ما أخبر الله به فإنه تقره العقول السليمة.
فالحاصل أن إثبات رؤية الله تعالى في الدار الآخرة هو قول أهل السنة ولا عبرة بقول أهل البدع.