ولما كان هذا المجيء وكذلك النزول الذي أثبته الله ورسوله في الأحاديث مخالفاً لما يعتقده المعتزلة ونحوهم أنكروا هذه الصفات، وقد قرأت في بعض التفاسير لبعض الأشاعرة لما أتى على الآية في سورة البقرة قال: وأما إتيان الله فقد أجمع المسلمون على أن الله منزهٌ عن المجيء والذهاب؛ لأن هذا من شأن المحدثات والمركبات.
ثم ذكر أن في هذه الآية قولين: القول الأول: قول السلف، وهو إمرارها وتفويضها وعدم الخوض فيها -يزعم أن هذا قول السلف مع أن السلف قد صرحوا بالإيمان بهذه الصفات والاعتراف بمعانيها-، والقول الثاني: هو تحريفها الذي يسمى تأويلاً.
وقد سلطوا عليها التأويلات وتكلّفوا في صرفها، فآية سورة البقرة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210] لا شك أن هذا عند قيام الساعة، يعني: أن يأتيهم الله تعالى لفصل القضاء بينهم ولعقاب من يعاقب.
والمتأولون قالوا: المجيء هنا لأمر الله.
أو قالوا: المأتي به محذوف تقديره: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بعذاب في ظلل من الغمام، أو: أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من الغمام.
وقرأنا في كتب التفسير عن بعض السلف أنهم قالوا: تأتي الملائكة في ظلل أو كالظلل من الغمام، ويأتي الله فيما يشاء، وهذا مذكور في تفسير ابن جرير وفي غيره من تفاسير السلف، اعترافٌ بأن الله تعالى يأتي كما يشاء.
وتأويلهم أيضاً لآية الأنعام: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] .
فالإتيان هنا لثلاثة أشياء: الملائكة والرب وآيات الرب، فتسلطوا على (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) فقالوا: أمره.
ولا شك أن ذلك يتعارض مع الجملة التي بعدها (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) ، لأن هذه تغني عنها إذا قالوا (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) يعني أمره.
فقوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) بعض آياته من أمره، فيكون هذا تكرار غير مستساغ، وينزه كلام الله تعالى أن يكون فيه هذا التكرار الذي لا فائدة فيه.
فلا بد أن يكون أمر الله تعالى يأتي في كل حين، وهذه الآية فيها تخويف لهم أن يأتيهم أمر الله تعالى، وأن يأتيهم الله، وأن تأتيهم بعض آياته، وأن تأتيهم الملائكة ونحو ذلك.
وكذلك قوله في سورة الفجر: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] لا شك أيضاً أنها صريحة في إثبات مجيء الله كما يشاء، (جَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) يعني: وجاء جنس الملائكة، (صَفًّا) صفوفاً متتابعة صفاً وراء صف.
فهذه أدلة من القرآن.
وقد ذكرنا أن الأشاعرة والمعتزلة سلطوا عليها التأويلات لأنهم ينكرون صفات الأفعال، ويقولون: إن المجيء والذهاب من شأن المحدثات والمركبات.
ولا ندري ماذا يريدون بالمحدثات؟! فمعلوم أن إتيان ومجيء كل شيءٍ بحسبه، فلا يجوز أن نحكم فيها الآراء ونسلط عليها التقديرات ونتخرص بها تخرصاً لا موقع له ولا مستند، بل نعترف ونتحقق بأن كل ما ذكره الله عن نفسه فإنه حق ويقين.
فنقول: يأتي الله تعالى لفصل القضاء بين عباده، ولكن لا ندري ما كيفية إتيانه، كما أننا لا نكيف ذاته.
وأما النزول فهو وارد في الأحاديث مشهور، ذكر ابن كثير وغيره أنه مروي عن عشرة من الصحابة، وقد يكون لأكثر من العشرة، وحديث النزول روي بلفظ (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا) ، وبلفظ: (إذا كان في آخر الليل) ، أو: (نصف الليل) ، أو: (إذا كان ثلث الليل) ، أو: (يهبط الله عز وجل إلى السماء الدنيا) ، أو ما أشبه ذلك من العبارات والألفاظ، وقد أورد الأحاديث ابن القيم رحمه الله في كتابه (الصواعق) واستوفى ما ورد فيها مع الاقتصار على بعضها لا كلها، وتبعه حافظ الحكمي في (معارج القبول) فأورد الأحاديث التي وردت في النزول في آخر الليل بلفظ: (ينزل) أو (نزل) أو (يهبط) أو (هبط) أو ما أشبه ذلك، وهي أحاديث كثيرة يدل مجموعها على أنه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه حق ويقين.
ولما كان هذا مما يخالف معتقد المعتزلة والأشعرية ونحوهم الذين ينكرون صفات الأفعال كثُر خوضهم في ذلك فقدروا فيه التقديرات، فمنهم من قال: ينزل أمره.
تفسيراً بالتحريف.
ومنهم من قال: لا نقبل هذه الأحاديث ولو كانت صحيحة لأنها تخالف المعقول، فعقولنا تنزه الله عن مثل هذه التقديرات.
فردوها وسلطوا عليها التأويلات أو كذبوا بها.