قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويقولون: إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله تعالى، وإن أكساب العباد كلها مخلوقة لله] .
قوله: [أكسابهم] يعني: أعمالهم.
فالأشاعرة يقولون: إن أفعال العباد خلق الله وكسب العباد.
فيثبتون للعبد كسباً، وكأنهم يبالغون في إثبات خلق الله تعالى للفعل، ولا يثبتون للعبد إلا كسباً، ولكن ذلك الكسب قد لا يكون له حقيقة.
فمن الأشياء التي لا حقيقة لها الكسب عند الأشعري، ولهذا يقول بعض الشعراء: مما يقال ولا حقيقة تحته معلومة تدنوا من الأفهام الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام يعني أنها تقال وليس لها حقيقة.
ومع ذلك فكسب العبد نفسه وعمله مخلوقان لله تعالى، وهذه المسألة هي التي ألف فيها البخاري كتاب (خلق أفعال العباد) ، وأورد الأدلة على أن أفعال العباد كلها خلق الله، فحركاتهم لا تكون إلا بإرادة الله تعالى وبمشيئته، وأن الله يهدي من يشاء فضلاً منه ويضل من يشاء عدلاً منه، وإذا كان هو الذي يهدي ويضل فإنه مع ذلك لا حجة لمن أضله الله عز وجل، ولا حجة له في ارتكاب المعاصي ولا عذر له، لقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] أخبر بأن حجة الله أقوى من حجتهم، ورد على المشركين احتجاجهم بقدرة الله وبقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148] ، ثم مع ذلك قال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] ، وقال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:29-30] ، فالذين مَنَّ الله عليهم بالهداية ووفقهم وأعانهم حتى صاروا مهتدين: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} ، أما الذين حق عليهم الضلال فهم الأشقياء، وهم الكفرة، وهم المحرومون الذين حقت عليهم الضلالة، والله تعالى هو الذي أضلهم وصرف قلوبهم وحال بينهم وبين الهداية عدلاً منه وحكمة.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] أخبر بأنه ذرأهم يعني خلقهم لها.
وورد أيضاً في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وإن الله خلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) ، وفي الحديث القدسي: (إن الله قبض قبضة فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي.
وقبض قبضة أخرى وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي) ، حكمة من الله تعالى أنه قسم خلقه إلى قسمين، فالحاصل أن هداية الله تعالى فضل منه، وإضلاله عدل منه، ولهذا حكى الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يقولون بعدما دخلوا الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] يعني: يعترفون بفضل الله تعالى عليهم، وبأنه هو الذي وفقهم وسددهم وأعانهم وأعطاهم ما يتميزون به عن أهل النار فضلاً منه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] .
وكذلك عموم مشيئة الله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119] ، فلو شاء لجعلهم أمة واحدة كما في قول الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:7-8] ، فلو شاء لجعلهم أمة واحدة كلهم مهتدون، ولكن صرف قلوب هؤلاء عدلاً منه، وهدى قلوب هؤلاء فضلاً منه.