قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويقولون: إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله عز وجل، وإن أكساب العباد كلها مخلوقة لله، وإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا حجة لمن أضله الله عز وجل ولا عذر، كما قال الله عز وجل: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] ، وقال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:29-30] ، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] ، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ، ومعنى (نبرأها) : نخلقها.
بلا خلاف في اللغة، وقال مخبراً عن أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ، وقال: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] ، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119] .
ويقولون: إن الخير والشر والحلو والمر بقضاء من الله عز وجل أمضاه وقدره، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، وإنهم فقراء إلى الله عز وجل لا غنى لهم عنه في كل وقت] .
سبق الحديث عن أفعال العباد، وقد أورد في هذه الفقرة ما يتعلق بخلق أفعال العباد، وبكمال قدرة الله تعالى وبعلمه السابق، ففي هذه الفقرة الكلام على القدرة والإرادة والمشيئة والعلم السابق، وكل ذلك موضح في كتب العقائد.
فنعتقد أولاً أن الله تعالى بكل شيء عليم، وأنه علم الأشياء قبل أن توجد وتتحقق وقبل أن تظهر، علم ذلك بعلمه الأزلي القديم، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، هذه عقيدة أهل السنة.
وأنكروا بذلك على غلاة المعتزلة الذين يدعون أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، وقد جاء في القرآن أن الله تعالى أنكر على المشركين ذلك، كما في القصة التي رواها عبد الله بن عمرو وغيره أن ثلاثة من المشركين بمكة كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم اجتمعوا، فقال أحدهم: هل ترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال أحدهم: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا.
فقال الآخر: إذا كان يسمع ما جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا.
فأنزل الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] هكذا ظنهم.
ثم إن الغلاة كـ معبد الجهني وغيلان القدري بالغوا وقالوا: إن الأمر أُنُف، وإن الله لا يعلم الأشياء حتى تحدث.
فرد عليهم الأئمة رداً واضحاً، ولا شك أن القرآن فيه الرد الواضح عليهم، مثل قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] يعني: معرفة الأمور المستقبلة يسير على الله تعالى، فلا يصيب أحداً مصيبة إلا وهي مكتوبة قبل أن يخلق، بل قبل أن تخلق المخلوقات كلها كما قال في الحديث: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب.
فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) ، وفي حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكتب في الذكر -يريد بـ (الذكر) اللوح المحفوظ- كل شيء كائن إلى يوم القيامة) ، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] ، كل ما هو كائن فإنه في اللوح المحفوظ، لا يتغير ولا يتبدل عما هو عليه.
كذلك يقول الله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] أي: مكتوب قبل أن توجد هذه المخلوقات كلها.
فيسمى هذا النوع: العلم السابق.
أي: علم الله بالأشياء قبل حدوثها، وذكر أن غلاة القدرية هم الذين أنكروه، فقال الشافعي رحمه الله في حقهم: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا.
أي: سلوهم: هل الله بكل شيء عليم؟ فإذا اعترفوا بأن الله بكل شيء عليم كما جاء في القرآن فقل: ما الفرق بين الماضي وبين المستقبل؟ إذا كان عليماً بالأشياء التي حدثت.
فإنه عليم بالأشياء التي لم تحدث، فكلها شيء، وكل شيء حادث فإنه لابد أنه معلوم لله، وكل ما يحدث مكتوب قبل أن يحدث.
ومع ذلك لا ينافي أنك مأمور بأن تعمل وبأن تبذل العمل، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب السابق وقال: (ما منكم من أحد إلا وقد عُلم مقعده من الجنة ومقعده من النار.
فقال بعضهم: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وقرأ قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ) ، فجعل التيسير له أسباب، وهو هذا العمل.