وَهَلْ تَكُونُ الزِّيَارَةُ سُنِّيَّةً إِلَّا إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى أَوَّلًا تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ؟

وَبِهَذَا ; فَلَا انْفِكَاكَ لِشَدِّ الرَّحْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ عَنْ زِيَارَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا لِزِيَارَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمَسْجِدِ، فَلَا مُوجِبَ لِهَذَا النِّزَاعِ.

وَهُنَا وُجْهَةُ نَظَرٍ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي، فَأَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . فَإِنَّ إِطْلَاقَهُ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ مِنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ حَيْثُ الْمَجِيءُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ.

فَيُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَا يَتَأَتَّى لِلْبَعِيدِ تَحْصِيلُهَا إِلَّا بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا كَوَسِيلَةٍ لِتَحْصِيلِهَا، وَالْوَسِيلَةُ تَأْخُذُ حُكْمَ الْغَايَةِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ، كَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ ; لِأَنَّ أَدَاءَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ، وَإِعْدَادَ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ إِلَيْهَا مَثَلًا مَنْدُوبٌ ; لِأَنَّ التَّجَمُّلَ إِلَيْهَا مَنْدُوبٌ، وَمِثْلُهُ إِعْدَادُ الطِّيبِ بِالنِّسْبَةِ لِحُضُورِهَا.

وَقَدْ رَأَيْتُ لِابْنِ تَيْمِيَةَ مُنَاقَشَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ بِأَمْثِلَةٍ قَابِلَةٍ هِيَ لِلنِّقَاشِ، فَقَالَ: لَيْسَ كُلُّ غَايَةٍ مَشْرُوعَةٍ تَكُونُ وَسِيلَتُهَا مَشْرُوعَةً، كَحَجِّ الْمَرْأَةِ وَخُرُوجِهَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَشْرُوطٌ فِيهِ وُجُودُ الْمَحْرَمِ. وَالثَّانِي: مَشْرُوطٌ فِيهِ إِذْنُ الزَّوْجِ.

وَالنِّقَاشُ لَهَا أَنَّ سَفَرَ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ إِلَّا مَعَ الْمَحْرَمِ، سَوَاءٌ كَانَ لِهَذَا الْمَسْجِدِ وَلِلْحَجِّ أَوْ لِغَيْرِهِ.

وَخُرُوجُهَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ مِنْهَا فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنْ إِذَا طَلَبَتِ الْإِذْنَ يُؤْذَنُ لَهَا. فَالْأَصْلُ فِيهِ الْمَنْعُ حَتَّى تَحْصُلَ عَلَى الْإِذْنِ.

وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ شَدُّ الرَّحْلِ إِلَيْهَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، لَمَا كَانَ لِفَاعِلِهِ نَصِيبٌ فِي فَضْلِهَا، وَلَا يَحْصُلُ عَلَى رَدِّ السَّلَامِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَيَانِ فَضِيلَتِهِ ; لِعَدَمِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، فَكَأَنْ يُقَالُ مَثَلًا: فَأَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، إِلَّا مَنْ شَدَّ الرَّحْلَ لِذَلِكَ. أَوْ يُقَالُ: مَنْ أَتَانِي مِنْ قَرِيبٍ فَسَلَّمَ عَلَيَّ. . . إلخ. وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهِ وَبَقِيَ الْحَدِيثُ عَلَى عُمُومِهِ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حُقُوقٍ وَخَصَائِصَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنْ: وُجُوبِ مَحَبَّةٍ، وَتَعْظِيمٍ، وَفَرْضِيَّةِ صَلَاةٍ،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015