فَهَذِهِ نُصُوصُ جَوَازِ السَّفَرِ لِعِدَّةِ أُمُورٍ، فَيَكُونُ مِنْ ضِمْنِهَا السَّفَرُ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ. حَيْثُ إِنَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ بِلَا نِزَاعٍ، وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْأَمَاكِنِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ ; فَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ قَطُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ الْمَسَاجِدِ وَبُلْدَانِهَا الثَّلَاثَةِ. وَلَكِنْ لَا لِخُصُوصِ الصَّلَاةِ فَقَطْ، بَلْ لِكُلِّ شَيْءٍ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنْوَاعَهُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتِّجَارَةِ وَالْعِظَةِ وَالنُّزْهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: كَصَوْمٍ، وَاعْتِكَافٍ، وَمُجَاوَرَةٍ، وَحَجٍّ، وَعُمْرَةٍ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَمُشَاهَدَةِ مَعَالِمَ تَارِيخِيَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمِنْ هَذَا كُلِّهِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا شَدَّ الرِّحَالَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِكُلِّ شَيْءٍ كَانَ مِنْهَا الزِّيَارَةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا مُعَارَضَةَ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْحَالَتَيْنِ، وَلَا يَتَعَارَضُ مَعَهُمَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، عَلَى أَيِّ تَقْدِيرٍ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وُجْهَةُ نَظَرٍ.
وَبِالتَّحْقِيقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِثَارَةِ النِّزَاعِ فِيهَا، يَظْهَرُ أَنَّ النِّزَاعَ وَالْجِدَالَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ تَحْتَمِلُ، وَهُوَ إِلَى الشَّكْلِيِّ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْحَقِيقِيِّ. وَلَا وُجُودَ لَهُ عَمَلِيًّا.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ كَالْآتِي: وَهُوَ مَا دَامُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى شَدِّ الرِّحَالِ لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لِلسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدُونِ شَدِّ الرِّحَالِ ; فَلَنْ يَتَأَتَّى لِإِنْسَانٍ أَنْ يَشُدَّ الرِّحَالَ لِلسَّلَامِ دُونَ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَخْطُرُ ذَلِكَ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ، وَكَذَلِكَ شَدُّ الرَّحْلِ لِلصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ دُونَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنْ يَخْطُرَ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ. وَعَلَيْهِ فَلَا انْفِكَاكَ لِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ ; لِأَنَّ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ مَا هُوَ إِلَّا بَيْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَلْ بَيْتُهُ إِلَّا جُزْءٌ مِنَ الْمَسْجِدِ كَمَا فِي حَدِيثِ الرَّوْضَةِ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» .
فَهَذَا قُوَّةُ رَبْطٍ بَيْنَ بَيْتِهِ وَمِنْبَرِهِ فِي مَسْجِدِهِ.
وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى: هَلْ يُسَلِّمُ أَحَدٌ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَرِيبٍ، لِيَنَالَ فَضْلَ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِلَّا إِذَا كَانَ سَلَامُهُ عَنْ قُرْبٍ وَمِنَ الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ؟