وَبِتَأَمُّلِ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ، نَجِدُهُ يَتَضَمَّنُ إِجْرَاءَ مُعَادَلَةٍ عَلَى نَصِّ الْحَدِيثِ بِأَنَّ لَهُ حَالَتَيْنِ فَقَطْ:
الْأُولَى: أَنْ يُقَالَ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِخُصُوصِ الصَّلَاةِ، وَلَا تُشَدُّ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ مُنْصَبًّا عَلَى شَدِّ الرِّحَالِ لِأَيِّ مَكَانٍ سِوَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ; مِنْ أَجْلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيمَا عَدَاهَا. فَيَبْقَى غَيْرُ الصَّلَاةِ خَارِجًا عَنِ النَّهْيِ ; فَتُشَدُّ لَهُ الرِّحَالُ لِأَيِّ مَكَانٍ كَانَ.
وَغَيْرُ الصَّلَاةِ يَشْمَلُ: طَلَبَ الْعِلْمِ، وَالتِّجَارَةَ، وَالنُّزْهَةَ، وَالِاعْتِبَارَ، وَالْجِهَادَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَضَافِرَةٌ.
فَفِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ نُصُوصٍ، وَقَدْ رَحَلَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى إِلَى الْخَضِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا، إِلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، إِلَى قَوْلِهِ: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [18 \ 60 - 66] .
وَفِي السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [73 \ 20] . وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [67 \ 15] ، وَغَيْرُهَا كَثِيرَةٌ.
وَالسَّفَرُ لِلْعِبْرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا [27 \ 69] .
وَقَوْلُهُ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 136 - 138] .
وَقَوْلُهُ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [22 \ 45 - 46] .
فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِالسَّيْرِ ; لِيَعْقِلُوا بِقُلُوبِهِمْ حَالَةَ تِلْكَ الْقُرَى الْخَاوِيَةِ لِيَتَّعِظُوا بِأَحْوَالِ أَهْلِهَا.