وَالْبَائِسُ: هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ الْبُؤْسُ، وَهُوَ الشِّدَّةُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صَحَّاحِهِ: وَبَئِسَ الرَّجُلُ يَبْأَسُ بُؤْسًا وَبَئِيسَا: اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ، فَهُوَ بَائِسٌ وَأَنْشَدَ أَبُو عَمْرٍو:

لِبَيْضَاءَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ تَذُقْ ... بَئِيسًا وَلَمْ تَتْبَعْ حَمُولَةَ مُجْحِدِ

وَهُوَ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ انْتَهَى مِنْهُ. يَعْنِي أَنَّ الْبَئِيسَ فِي الْبَيْتِ لَفْظُهُ لَفْظُ الْوَصْفِ، وَمَعْنَاهُ الْمَصْدَرُ، وَالْفَقِيرُ مَعْرُوفٌ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ إِذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وَإِذَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا، وَعَلَى قَوْلِهِمْ: فَالْفَقِيرُ هُنَا يَشْمَلُ الْمِسْكِينَ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ مَعَهُ هُنَا، وَذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ، بِأَنَّهُمَا إِذَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا، وَمَعْلُومٌ خِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ أَيُّهُمَا أَشَدُّ فَقْرًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ وَنَاقَشْنَاهَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ» ، وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُ: إِنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ مِنَ الْمِسْكِينِ، وَأَنَّ الْمِسْكِينَ مَنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ لَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ الْآيَةَ [18 \ 79] ، قَالُوا: فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ، مَعَ أَنَّ عِنْدَهُمْ سَفِينَةً عَامِلَةً لِلْإِيجَارِ.

وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْوَجُ مِنَ الْفَقِيرِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي الْمِسْكِينِ: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [90 \ 16] ، قَالُوا: ذَا مَتْرَبَةٍ: أَيْ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ. حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ لَصِقَ بِالتُّرَابِ مِنَ الْفَقْرِ، لَيْسَ لَهُ مَأْوًى إِلَّا التُّرَابَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمَطْرُوحُ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي لَا بَيْتَ لَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي لَا يَقِيهِ مِنَ التُّرَابِ لِبَاسٌ، وَلَا غَيْرُهُ انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. وَعَضَّدُوا هَذَا بِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْفَقِيرَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مَالٌ لَا يَكْفِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ رَاعِي نُمَيْرٍ: أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ فَسَمَّاهُ فَقِيرًا مَعَ أَنَّ لَهُ حَلُوبَةً قَدْرَ عِيَالِهِ.

وَقَدْ نَاقَشْنَا أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ مُنَاقَشَةً تُبَيِّنُ الصَّوَابَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، فَأَغْنَانَا ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا الْمَبْحَثُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَهَذِهِ مَذَاهِبُهُمْ وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْهَا: فَذَهَبَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَصْحَابُهُ إِلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ جَمِيعِ الْهَدْيِ وَاجِبِهِ وَتَطَوُّعِهِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: جَزَاءَ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةَ الْأَذَى، وَالنَّذْرَ الَّذِي هُوَ لِلْمَسَاكِينِ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: كُلُّ هَدْيٍ وَاجِبٌ فِي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015