وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْعَ جَمِيعِهِ لَا وَجْهَ لِحِلِّيَّتِهِ، بَلْ وَلَا بَيْعَ بَعْضِهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا: وُجُوبُ الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ مِنَ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَكُلُوا مِنْهَا فِي مَوْضِعَيْنِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ وَاللُّغَةَ دَلَّا عَلَى أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ: تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنِ الْوُجُوبِ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24 \ 63] .

وَأَوْضَحْنَا جَمِيعَ أَدِلَّةِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، مِنْهَا آيَةُ «الْحَجِّ» الَّتِي ذَكَرْنَا عِنْدَهَا مَسَائِلَ الْحَجِّ.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَكْلِ وَتَأْكِيدِهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَأَمَرَ بِقِطْعَةِ لَحْمٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَأَكَلَ مِنْهَا وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا» . وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَلَّا تَبْقَى وَاحِدَةٌ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ إِلَّا وَقَدْ أَكَلَ مِنْهَا أَوْ شَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِنْهَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْبَابِ وَالتَّخْيِيرِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاكْتَفَى بِالْأَكْلِ مِنْ بَعْضِهَا، وَشَرِبَ مَرَقَهُ دُونَ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ الْإِطْعَامُ فَالْأَظْهَرُ فِيهِ الْوُجُوبُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ: تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إِلَّا لِصَارِفٍ عَنْهُ، وَقَدْ أُمِرَ بِالْأَكْلِ مِنَ الذَّبَائِحِ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ صَارِفٌ عَنِ الْوُجُوبِ وَكَذَلِكَ الْإِطْعَامُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ بِحَسْبَ الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهَا أَدِلَّةُ الْوَحْيِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» : وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ وَقِيلَ: بِاسْتِحْبَابِهِمَا. وَقِيلَ: بِاسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ، وَوُجُوبِ الْإِطْعَامِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ: لَا تَحْدِيدَ لِلْقَدْرِ الَّذِي يَأْكُلُهُ وَالْقَدَرِ الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَيَأْكُلُ مَا شَاءَ وَيَتَصَدَّقُ بِمَا شَاءَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَتَصَدَّقُ بِالنِّصْفِ، وَيَأْكُلُ النِّصْفَ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [22 \ 28] ، قَالَ: فَجَزَّأَهَا نِصْفَيْنِ، نِصْفٌ لَهُ وَنِصْفٌ لِلْفُقَرَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجْعَلُهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، يَأْكُلُ الثُّلُثَ وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ، وَيُهْدِي الثُّلُثَ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [22 \ 36] ، فَجَزَّأَهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، ثُلُثٌ لَهُ، وَثُلُثٌ لِلْقَانِعِ، وَثُلُثٌ لِلْمُعْتَرِّ. هَكَذَا قَالُوا وَأَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015