وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [22 \ 28] ، وَهَذَا الْأَكْلُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هُنَا مِنْهَا وَإِطْعَامُ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ مِنْهَا، أُمِرَ بِنَحْوِهِ فِي خُصُوصِ الْبُدْنِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ الْآيَةَ [22 \ 36] ، فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى: الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِنْ جَمِيعِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الصَّادِقُ بِالْبُدْنِ، وَبِغَيْرِهَا، وَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ أَنَّ الْبُدْنَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ الْأُولَى.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَرِدَ نَصٌّ عَامٌّ، ثُمَّ يَرِدَ نَصٌّ آخَرُ يُصَرِّحُ بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ فِي عُمُومِهِ، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ. وَفِي الْآيَةِ الْعَامَّةِ هُنَا أَمْرٌ بِالْأَكْلِ، وَإِطْعَامِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ، وَفِي الْآيَةِ الْخَاصَّةِ بِالْبُدْنِ: أَمْرٌ بِالْأَكْلِ، وَإِطْعَامِ الْقَانِعِ وَالْمُعْتَرِّ.

وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ مَبْحَثَانِ.

الْأَوَّلُ: حُكْمُ الْأَكْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَتَيْنِ، هَلْ هُوَ الْوُجُوبُ لِظَاهِرِ صِيغَةِ الْأَمْرِ، أَوِ النَّدْبُ وَالِاسْتِحْبَابُ؟

الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِيمَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ لِصَاحِبِهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَمَذَاهِبُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ.

أَمَّا الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ فِي الْآيَتَيْنِ: لِلِاسْتِحْبَابِ، وَالنَّدْبِ، لَا لِلْوُجُوبِ، وَالْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ عَنِ الْوُجُوبِ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ: هِيَ مَا زَعَمُوا مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ هَدَايَاهُمْ فَرُخِّصَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ.

وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: فَكُلُوا إِنْ شِئْتُمْ وَلَا تُحَرِّمُوا الْأَكْلَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْأَكْلِ غَرِيبٌ، وَعَزَا لِلْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْأَمْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: فَكُلُوا مِنْهَا: أَمَرٌ مَعْنَاهُ: النَّدْبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ، أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدْيِهِ وَأُضْحِيَّتِهِ، وَأَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْأَكْثَرِ مَعَ تَجْوِيزِهِمُ الصَّدَقَةَ بِالْكُلِّ، وَأَكْلَ الْكُلِّ وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ، فَأَوْجَبَتِ الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَكَلُّوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا» ، قَالَ الْكِيَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِهِ، وَلَا التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015