الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْهَدْيُ مَعَهُ مِنْ بَلَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَشِرَاؤُهُ مِنَ الطَّرِيقِ أَفْضَلُ مِنْ شِرَائِهِ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ أَصْلًا بَلِ اشْتَرَاهُ مِنْ مِنًى جَازَ، وَحَصَلَ الْهَدْيُ اهـ.

وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُهْدِ هَدْيًا إِلَّا جَامِعًا بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ; لِأَنَّهُ يُسَاقُ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [2 \ 196] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنَ الطَّرِيقِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ أَفْضَلُ، وَلَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. أَمَّا كَوْنُهُ لَا يُجْزِئُ بِدُونِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَلَا دَلِيلَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ شَرْعًا حَاصِلٌ، وَلَوْ لَمْ يَجْمَعِ الْهَدْيُ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ، وَجَمْعُ هَدْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرِ الْجِبِلِّيِّ، فَلَا يَتَمَحَّضُ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ ; لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْهَدْيِ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ الَّتِي قَدِمَ بِهَا عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ تَيَسَّرَ لَهُ وَجُودُهَا هُنَاكَ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ. فَحُصُولُ الْهَدْيِ فِي الْحِلِّ يُشْبِهُ الْوَصْفَ الطَّرْدِيَّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ مَصْلَحَةً كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْمُهْدِيَ إِنِ اضْطُرَّ لِرُكُوبِ الْبَدَنَةِ الْمُهْدَاةِ فِي الطَّرِيقِ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: " ارْكَبْهَا ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: " ارْكَبْهَا وَيْلَكَ " فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ " هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ، فَقَالَ: " ارْكَبْهَا " فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ: " ارْكَبْهَا "، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ: " ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ " فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ " وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ عَنْ أَنَسٍ، وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي رُكُوبِ الْهَدْيِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: لَهُ رُكُوبُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُ. وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْكَبُهُ إِلَّا إِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَوْجَبَ رُكُوبَهَا لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ وَلِمُخَالَفَةِ مَا كَانَتْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015