فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَلْقِ، هَلْ هُوَ نُسُكٌ كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ؟
فَمَنْ قَالَ: هُوَ نُسُكٌ قَالَ: إِنَّ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الرَّمْيِ، وَالْحَلْقِ مَعًا، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَلْقَ غَيْرُ نُسُكٍ قَالَ: يَتَحَلَّلُ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ بِمُجَرَّدِ انْتِهَائِهِ مِنْ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ الْآيَةَ [2 \ 196] .
الْفَرْعُ الثَّانِي: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةِ التَّحَلُّلِ: فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ: يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، وَالصَّيْدَ، وَالطِّيبَ، وَالطِّيبُ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ بَعْدَ رَمْيِهَا لَا حَرَامٌ، وَإِنْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ. وَكَانَ قَدْ سَعَى حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إِذَا حَلَقَ، أَوْ قَصَّرَ حَلَّ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ، وَيَحِلُّ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ إِلَّا النِّسَاءَ، وَإِنْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ حِلَّ النِّسَاءِ بَعْدَ الطَّوَافِ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ، لَا بِالطَّوَافِ لِأَنَّ الْحَلْقَ هُوَ الْمُحَلِّلُ دُونَ الطَّوَافِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ إِلَى مَا بَعْدَ الطَّوَافِ فَإِذَا طَافَ عَمِلَ الْحَلْقُ عَمَلَهُ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أُخِّرَ عَمَلُهُ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِحَاجَتِهِ إِلَى الِاسْتِرْدَادِ، فَإِذَا انْقَضَتْ عَمِلَ الطَّلَاقُ عَمَلَهُ فَبَانَتْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَحْلِقَ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَدَارَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْحَلْقِ، إِلَّا أَنَّ الْحَلْقَ عِنْدَهُمْ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَبَعْدَ النَّحْرِ إِنْ كَانَ الْحَاجُّ يُرِيدُ النَّحْرَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِاثْنَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ هِيَ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْحَلْقُ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، فَإِذَا فَعَلَ اثْنَيْنِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ فَعَلَ الثَّالِثَ مِنْهَا تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَ الثَّانِيَ، وَبِالْأَوَّلِ يَحِلُّ عِنْدَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، وَبِالثَّانِي تَحِلُّ النِّسَاءُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ، فَالتَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ مِنَ اثْنَيْنِ: هُمَا رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ. وَيَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الثَّانِي بِفِعْلِ الثَّانِي، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هُوَ أَنَّهُ إِنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ حَلَقَ تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ، وَبِهِ يَحِلُّ عِنْدَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، فَإِنْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، حَلَّتْ لَهُ النِّسَاءُ.