الْحَجِّ حَتَّى مَاتَ مُفَرِّطًا مَعَ الْقُدْرَةِ، أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِنْ تَرَكَ مَالًا ; لِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّتِهِ، فَكَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَقَضَاءُ دَيْنِ اللَّهِ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِأَحَقِّيَّتِهِ حَيْثُ قَالَ: " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى ".
أَمَّا مَنْ عَاجَلَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَمَاتَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ، فَالظَّاهِرُ لَنَا أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَا دَيْنَ لِلَّهِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَاءِ الْفِعْلِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ نَفَسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى جَوَازِ حَجِّ الرَّجُلِ عَنِ الْمَرْأَةِ وَعَكْسِهِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ.
وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقُوهُ، لَمْ يَعْمَلُوا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا مَعَ كَثْرَتِهَا وَصِحَّتِهَا ; لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ عِنْدَهُمْ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [53 \ 39] . وَقَوْلِهِ: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] وَالْمَعْضُوبُ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِمُسْتَطِيعٍ ; لِصِدْقِ قَوْلِكَ: إِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا اشْتُهِرَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ; مَعْنَاهُ عِنْدَهُ: أَنَّ الصَّحِيحَ الْقَادِرَ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْهُ فِي الْفَرْضِ.
وَالْمَعْضُوبُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرٍ، وَأَحْرَى الْمَيِّتُ، فَالْحَجُّ عَنْهُمَا مِنْ مَالِهِمَا لَا يَلْزَمُ عِنْدَهُ إِلَّا بِوَصِيَّةٍ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ صَحَّ مِنَ الثُّلُثِ، وَتَطَوُّعُ وَلَيِّهِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، خِلَافُ الْأَوْلَى عِنْدَهُ، بَلْ مَكْرُوهٌ.
وَالْأَفْضَلُ عِنْدَهُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ الْمَالُ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْحَجِّ، كَأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ أَوْ يُعْتِقَ بِهِ عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْهُ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ وَصَحَّ حَجُّهُ عَنْهُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ النِّيَابَةَ عَنِ الصَّحِيحِ فِي الْفَرْضِ عِنْدَهُ مَمْنُوعَةٌ، وَفِي غَيْرِ الْفَرْضِ مَكْرُوهَةٌ، وَالْعَاجِزُ عِنْدَهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ أَصْلًا لِلْحَجِّ.
قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَمُنِعَ اسْتِنَابَةُ صَحِيحٍ فِي فَرْضٍ، وَإِلَّا كُرِهَ. اهـ.
وَقَالَ شَارِحُهُ الْخَطَّابُ: وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَإِلَّا كُرِهَ، بِحَسَبِ الظَّاهِرِ ثَلَاثُ صُوَرٍ: اسْتِنَابَةُ الصَّحِيحِ فِي النَّفْلِ، وَاسْتِنَابَةُ الْعَاجِزِ فِي الْفَرْضِ وَفِي النَّفْلِ، لَكِنْ فِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ هُنَا إِلَّا صُورَتَانِ ; لِأَنَّ الْعَاجِزَ لَا فَرِيضَةَ عَلَيْهِ. اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ حَمَلَ الْكَرَاهَةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.