كَتَشْبِيهِهِ بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ بِأَنَّ الْحَجَّ أَعْمَالٌ بَدَنِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَاجُ إِلَى مَالٍ. وَالْأَعْمَالُ الْبَدَنِيَّةُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، فَلَا وُجُوبَ لِعَمَلٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالَّذِي يَحُجُّ عَنْهُ مُتَطَوِّعٌ، وَفَاعِلٌ خَيْرًا. قَالُوا: وَوَجْهُ تَشْبِيهِهِ بِالدَّيْنِ انْتِفَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِذَلِكَ الْفِعْلِ، فَالْمَدِينُ يَنْتَفِعُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ، وَالْمَيِّتُ يَنْتَفِعُ بِالْحَجِّ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْ أَحَدٍ، أَنَّ الْقَضَاءَ عَنْهُ وَاجِبٌ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهُ عَنْهُ غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ: وَارِدَةٌ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، قَالُوا: وَالْأَمْرُ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ كَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، فَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ وَالْحَظْرَ الْأَوَّلَ كِلَاهُمَا قَرِينَةٌ عَلَى صَرْفِ الْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ إِلَى الْإِبَاحَةِ.
قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ: فَإِنْ وَرَدَ بَعْدَ حَظْرٍ - قَالَ الْإِمَامُ: أَوِ اسْتِئْذَانٍ - فَلِلْإِبَاحَةِ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشِّيرَازِيُّ، وَالسَّمْعَانِيُّ وَالْإِمَامُ: لِلْوُجُوبِ، وَتَوَقَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. انْتَهَى مِنْهُ. فَتَرَاهُ صَدَّرَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ لِلْإِبَاحَةِ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَبْيَاتِ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ كَونِ الْأَمْرِ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ لِلْإِبَاحَةِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا اصْطَادُوهُ بِالْجَوَارِحِ، وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي أَكْلِهِ، نَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [5 \ 4] فَصَارَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ لِلْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّهُ وَارِدٌ بَعْدَ سُؤَالٍ وَاسْتِئْذَانٍ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ مُسْلِمٍ: أَأُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ " نَعَمْ " الْحَدِيثَ، فَإِنَّ مَعْنَى " نَعَمْ " هُنَا: صَلِّ فِيهَا. وَهَذَا الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِيهَا لِلْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ، وَخِلَافُ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ أَوِ الِاسْتِئْذَانِ مَعْرُوفٌ.
هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِهِمْ فِي الْمُسْتَطِيعِ بِغَيْرِهِ، وَوُجُوبِ الْحَجِّ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ وَتَرَكَ مَالًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَدِلَّتَهُمْ وَمُنَاقَشَتَهَا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا تَدُلُّ قَطْعًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ عَنِ الْمَعْضُوبِ وَالْمَيِّتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا وُجُوبُ الْحَجِّ فَوْرًا، وَعَلَيْهِ فَلَوْ فَرَّطَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى