وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ نَوْعَيِ الْمُسْتَطِيعِ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ يَدْفَعُهُ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَهُ وَلَدٌ يُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ وَالْوَلَدُ مُسْتَطِيعٌ، فَهَلْ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْوَالِدِ، وَيَلْزَمُهُ أَمْرُ الْوَلَدِ بِالْحَجِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الْمَعْضُوبِ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا لَا يُحِجُّ بِهِ غَيْرَهُ، فَوَجَدَ مَنْ يُطِيعُهُ ; قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَالِكًا احْتَجَّ فِي مَسْأَلَةِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَهُ مَالٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [53 \ 39] وَبِأَنَّهُ عَاجِزٌ بِنَفْسِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ إِلَى الْحَجِّ سَبِيلًا، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، وَبِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ وَغَيْرَهُ رَوَوْا عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: أَنَّهُ لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَنَحْوَهُ عَنِ اللَّيْثِ وَمَالِكٍ، وَأَنَّ الَّذِينَ خَالَفُوهُ احْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَفِيهَا أَلْفَاظٌ ظَاهِرُهَا الْوُجُوبُ، كَتَشْبِيهِهِ بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَكَقَوْلِ السَّائِلِ: يُجْزِئُ عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ وَالْإِجْزَاءُ دَلِيلُ الْمُطَالَبَةِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهَا أَنَّ السَّائِلَ يَقُولُ: إِنَّ عَلَيْهِ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، وَيَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ أَنَّ الْحَجَّ سَقَطَ عَنْهُ بِزَمَانَتِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَبِقَوْلِهِ لِلْوَلَدِ «أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ» وَأَمْرِهِ بِالْحَجِّ عَنْهُ.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ وُجُودِ الْمَعْضُوبِ مَالًا فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْحَجَّ، وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَلَدًا يُطِيعُهُ فَلَمْ يُوجِبُوهُ عَلَيْهِ ; فَلِأَنَّ الْمَالَ مِلْكُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ بِهِ، وَالْوَلَدُ مُكَلَّفٌ آخَرُ لَيْسَ مُلْزَمًا بِفَرْضٍ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَيْسَ بِمُسْتَطِيعٍ بِبَدَنٍ، وَلَا بِزَادٍ وَرَاحِلَةٍ، وَلَوْ وَجَدَ إِنْسَانًا غَيْرَ الْوَلَدِ يُطِيعُهُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْوَلَدِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ. وَفِي فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ تَوْجِيهُ كُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا، فَانْظُرْهُ فِي النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ كَالْوَلَدِ.
تَنْبِيهٌ
إِذَا مَاتَ الشَّخْصُ، وَلَمْ يَحُجَّ، وَكَانَ الْحَجُّ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ لِاسْتِطَاعَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ تَرَكَ مَالًا، فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُحَجَّ وَيُعْتَمَرَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ أَنْ يُحُجَّ عَنْهُ، وَيُعْتَمَرَ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، سَوَاءٌ مَاتَ مُفَرِّطًا أَوْ غَيْرَ مُفْرِّطٍ ; لِكَوْنِ الْمَوْتِ عَاجَلَهُ عَنِ الْحَجِّ فَوْرًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.