قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالُكٌ: يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، فَإِنْ أَوْصَى بِذَلِكَ، فَهُوَ فِي الثُّلُثِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [53 \ 39] مُقَدَّمٌ عَلَى ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، بَلْ عَلَى صَرِيحِهَا؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْهَا. وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَبِأَنَّ الْمَعْضُوبَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِسَعْيِهِ، بِتَقْدِيمِ الْمَالِ وَأُجْرَةِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ. فَهَذَا مِنْ سَعْيِهِ، وَأَجَابُوا عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّلَاةِ بِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَالَّذِينَ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ اسْتَدَلُّوا بِأَحَادِيثَ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ، تَقْتَضِي أَنَّ مَنْ مَاتَ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ.
مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ ". اهـ.
وَالْحَجُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا فَإِيجَابُ اللَّهِ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي كِتَابِهِ أَقْوَى مِنْ إِيجَابِهِ بِالنَّذْرِ. وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ نَذْرِ الْحَجِّ مِمَّنْ لَمْ يَحُجَّ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: فَإِذَا حَجَّ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ عَنِ النَّذْرِ. وَقِيلَ: يُجْزِئُ عَنِ النَّذْرِ، ثُمَّ يَحُجُّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: يُجْزِئُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ". اهـ.
وَقَالَ الْمُجِدُّ فِي الْمُنْتَقَى بَعْدَ أَنْ أَشَارَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ هَذَا: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ مِنَ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ، حَيْثُ لَمْ يَسْتَفْصِلْهُ أَوَارِثٌ هُوَ أَوْ لَا؟ وَشَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ. انْتَهَى.