قال ابن العربي كلاماً عظيماً أذكر بعضه لا كله، وذلك بعد أن ذكر سبب نزول آية الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52].
قال: اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه، ويسر لكم مقصد التوحيد ومغزاه أن الهدى هدى الله، فسبحان من يتفضل به على من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، وقد بينا معنى هذه الآية في فصل تنبيه الغبي على مقدار النبي بما نرجو به عند الله الجزاء الأوفى في مقام الزلفى، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغماء، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء، إلى بقاع العلماء في عشر مقامات.
أذكر بعض هذه المقامات: المقام الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه فإنه يخلق له العلم حتى يتحقق أن هذا هو جبريل، فلا يكاد ينصرف جبريل إلا وقد علم النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا جبريل، وهذا يتنافى مع ذكر القصة أنه سها، وأنه ما عرف وما عقل وما أدرك أن هذا من الشيطان حتى نزل جبريل مرة أخرى ليثبت أنه لم يوح إليه بذلك، وأخبره أن ذلك من الشيطان.
فالمقام الأول: أن الله تعالى يخلق في قلب النبي علماً يستبين به أن المحدث معه هو جبريل عليه السلام.
المقام الثاني: أن الله قد عصم نبيه من الكفر، وأمنه من الشرك، واستقر ذلك من دين المسلمين بإجماعهم فيه، وإطباقهم عليه; فمن ادعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله، أو يشك فيه طرفة عين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه; بل لا تجوز عليه -عليه الصلاة والسلام- المعاصي في الأفعال فضلاً عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد; بل هو المنزه عن ذلك فعلاً واعتقاداً، إذا ثبتت عصمته في هذا الباب فإن من قال بغيره فقد كفر بالله العظيم.
المقام الثالث: أن الله قد عرف رسوله بنفسه، وبصره بأدلته، وأراه ملكوت سماواته وأرضه، وعرفه سنن من كان قبله من إخوته، فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه نحن اليوم، ونحن حثالة أمته; ومع هذا نعرف أن هذا من الشيطان، وأن هذا من الرحمن، فكيف خفي على نبيه عليه الصلاة والسلام.
المقام الرابع: تأملوا -فتح الله أغلاق النظر عنكم- إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم هم أعداء على الإسلام، ممن صرح بعداوته: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنى ألا ينزل عليه من الله وحي، فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة من عقل أن يخطر بباله أن النبي صلى الله عليه وسلم آثر وصل قومه على وصل ربه، وأراد ألا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من عند ربه من الوحي الذي كان حياة جسده وقلبه، وأنس وحشته، وغاية أمنيته، وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام أجود الناس; فإذا جاء جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة، فيؤثر على هذا مجالسة الأعداء! أكل هذا الخير في نزول الوحي يتمنى النبي عليه السلام ألا يكون شيء من ذلك، ويريد ويتمنى أن يأنس بالجلوس مع المشركين -وهم أعداؤه- في ناديهم الذي يأتون فيه المنكر؟!
صلى الله عليه وسلم لا.
المقام الخامس: أن قول الشيطان: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى للنبي صلى الله عليه وسلم قبله منه; فالتبس عليه الشيطان بالملك، واختلط عليه التوحيد بالكفر، حتى لم يفرق بينهما، ثم يقول ابن العربي: وأنا من أدنى المؤمنين منزلة يرفع الله شأنه، وأقلهم معرفة بما وفقني الله له وآتاني من علمه لا يخفى علي -أي: لا يخفى علي مثل هذا الباطل، فكيف خفي على النبي عليه الصلاة والسلام؟ - أن هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله، ولو قاله أحد لكم لتبادر الكل إليه بالتكفير والتفسيق والتبديع والنفاق قبل أن يتم كلامه، فضلاً عن أن يجهل النبي عليه الصلاة والسلام حال القول، ويخفى عليه قوله، ولا يتفطن لصفة الأصنام بأنها الغرانيق العلى، وأن شفاعتهن ترتجى، وقد علم علماً ضرورياً أنها جمادات لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، ولا تنطق ولا تنفع أصحابها، بهذا كان يأتيه جبريل في الصباح والمساء، فكيف يخفى عليه كل هذا في لحظة واحدة؟ ويتلو هذا حتى نزل قول الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء:73].
المقام السادس: قول الله تعالى: ((وَإِنْ كَادُوا))، أي: قاربوا لكنهم لم يكونوا كمن فعل، لكنهم قاربوا بكثرة إلحاحهم وعنادهم ومحاربتهم للنبي عليه الصلاة والسلام حتى كاد يفتن، لكنه لم يكن منه ذلك.
المقام السابع: قول الله تعالى: ((لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ)) فلما لم يفتر على الله تعالى، ولم يخبر عنه إلا ما أنزل لم يتخذوه خليلاً.
المقام الثامن: قول الله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] ; ولو كان ذلك منك يا محمد! لا تجد لك من الله تبارك وتعالى نصيراً كما أخبر الله تعالى في الآية، فلما كان الله تعالى هو نصيره وهو مؤيده ومسدده دل على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يركن إليهم شيئاً قليلاً.
كل هذه الآيات إنما أفادت العصمة.
إذاً: فما هي حكاية هذ