هذه القصة من جهة الإسناد لا تثبت، فما من طريق مما ذكرت ومما لم أذكر إلا روي مرسلاً أو معضلاً أو موضوعاً مفترى، سواء كان هذا موصولاً أو غير موصول، فلا يخلو إسناد من هذه الأسانيد من كذاب أو وضاع أو منكر الحديث، وروي هذا الحديث مرفوعاً وموقوفاً، وروي مرسلاً وموصولاً، وسقط بهذه الأسانيد الحافظ ابن حجر سقطة عظيمة جداً في المجلد الثامن من فتح الباري، وقال: مجموع هذه الأسانيد يرقي الرواية ويجعلها مقبولة! مع الإقرار اليقيني بأن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم وأنه لا يقر على باطل، فلما جاء هذا على لسانه من وحي الشيطان أنزل الله تبارك وتعالى عصمته بعد ذلك.
فأقول: إن الحافظ ابن حجر جانبه الصواب ورد عليه غير واحد من أئمة العلم بخطئه في ذلك؛ ليثبت الحافظ ابن حجر أنه بشر، وأنه ليس أحد معصوماً إلا الأنبياء والمرسلون، فانظر يا أخي الكريم! حتى لا تغتر بكلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري، فكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد، فما الذي دعا الحافظ ابن حجر أن يقول بثبوت هذه الرواية وصحتها؟ قال: إن كثرة هذه الطرق وضم بعضها إلى بعض يعطي ويشعر أن لهذه الرواية أصلاً، فرد عليه غير واحد بأن انضمام الطرق وكثرتها ليست على الإطلاق يقوي بعضها بعضاً، بل إذا رويت هذه الطرق من طريق الكذابين والوضاعين والمفترين والملاحدة فإنها لا تزيد الرواية إلا ضعفاً ورداً، وإني لأعتقد أن المقام لا يسمح بذكر علل كل إسناد من هذه الأسانيد، ولكن أقول كلاماً عاماً: إن كل رواية من هذه الروايات اشتملت على كذاب أو وضاع أو مفتر أو ملحد أو غير ذلك ممن هو مطعون عليه في دينه وروايته، فإن بلغت روايات هذه القصة مائة طريق فإنها لا تزيد القصة إلا رداً وفساداً وبطلاناً.
هذا من جهة الإسناد.
أما من جهة المتون فقد وقع فيها اضطراب عظيم في سياقاتها، فمعظم الروايات أو جلها أن الشيطان تكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الجملة الباطلة التي تمدح أصنام المشركين: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، وفي بعض الروايات: أن المؤمنين مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم ولا يتهمونه على خطأ أو وهم، وهذا يدل على أن المؤمنين قبلوا من النبي عليه الصلاة والسلام الشرك الذي جاء به، بعد أن علمهم التوحيد وعلمهم أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، وأنها لا تشفع لعابديها عند الله عز وجل، فهو صلى الله عليه وسلم نقض كلامه هذا وأثبت أن لها شفاعات ولم يتكلم واحد من المؤمنين.
وفي رواية: أن النبي عليه الصلاة والسلام بقي مدة لا يدري أن ذلك من الشيطان حتى قال له جبريل: معاذ الله لم آتك بهذا، هذا من الشيطان.
وفي رواية: أنه عليه الصلاة والسلام سها حتى قال ذلك، فلو كان كذلك أفلا ينتبه لسهوه عليه الصلاة والسلام حتى ينبهه جبريل عليه السلام؟ وفي رواية: أن ذلك ألقي عليه وهو يصلي، وفي رواية: أنه عليه الصلاة والسلام تمنى ألا ينزل عليه شيء من الوحي يعيب آلهة المشركين لئلا ينفروا عنه، وانظر مقام النبوة كيف يتفق مع هذا؟! وفي رواية: عندما أنزل جبريل ذلك عليه قال عليه الصلاة والسلام: (افتريت على الله وقلت على الله ما لم أقل وشركني الشيطان في أمر الله) فهذه طامات وبلاوي يجب تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم منها، لاسيما هذا الأخير، فإنه لو كان صحيحاً لصدق فيه عليه الصلاة والسلام قول الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، فلما لم يكن ذلك تبين أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتمن بقلبه ألا يعيب الله تعالى آلهة المشركين، خاصة وأن المشركين قد عملوا على مدار العهد المكي على محاربة النبي عليه الصلاة والسلام بسبب سبه وتنقصه لآلهتهم.
ففي هذه الاحتمالات كلها لا يمكن أن تطمئن النفس لقبول أحاديث هؤلاء الذين رووا قصة الغرانيق، ولاسيما في مثل هذا الحديث العظيم الذي يمس المقام الكريم؛ فلا جرم في تتابع العلماء على إنكار هذه القصة، بل التنديد ببطلانها والرد على الحافظ ابن حجر في إثباتها، كما قال الفخر الرازي في تفسيره: روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة، وأنتم تعلمون أيها الإخوة الكرام! أن الرواية لا تقبل إلا إذا كانت من طريق الثقات العدول، وهذه القصة من رواية الزنادقة والملاحدة فكيف تقبل؟ وصنف فخر الدين الرازي كتاباً خاصاً بهذه القضية، أسماه: (عصمة الأنبياء) وذكر فيه هذه القصة، كما جاء ذلك في تفسيره، وقال الإمام البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، وأخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم كل راو على حدة بكلام طويل لا يتسع له هذا المقام.
وقد روى البخاري