أهل مدينة على فصاحتهم وجب الأخذ عنهم والاحتجاج بكلامهم، ولو عرض لأهل البادية ما يقدح في فصاحتهم تعين ترك لغتهم وبطل الأخذ عنهم؛ لأن الحكم دائر مع علته وجودًا وعدمًا، فمتى وجدت الفصاحة الكاملة والوثوق؛ صح الاحتجاج من كِلا الفريقين، ومتى انتفى ذلك انتفى الاحتجاج.
ومن هذا يتبين أن علماء العربية قد دقَّقوا النظر فيما يأخذون عنهم، فلم يأخذوا إلا عن قوم اطمأنوا إلى فصاحتهم، ووثقوا بصفاء لغتهم، وخلوص عربيتهم، ويدل على ذلك قول سيبويه في (الكتاب): "وسمعنا الثقة من العرب يقول: يا حرمل. يريد يا حرملة"، وقوله: "وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: ما منهم مات حتى رأيته في حال كذا وكذا، وإنما يريد ما منهم واحد مات". انتهى.
ونلحظ في كلام سيبويه أنه ينقل عن الثقات من العرب، والثقات هم الذين لم يعرض لكلامهم ما يمنع من أخذه والاحتجاج به، ومن أجل ذلك وجدنا ابن جني لا يثق بكل أعرابي، وإن كان أكثر كلامه مقبولًا، لا سبيل إلى الطعن في فصاحته، بل يدعو إلى الاطمئنان إلى أن لغته ليس فيها ما يقدح في فصاحتها، أو ينال منها، أو يغضُّ من شأنها فيقول -رحمه الله تعالى-: لا نكاد نرى بدويًّا فصيحًا وإن نحن آنسنَا منه فصاحة في كلامه، لم نكد نعدم ما يفسد ذلك، ويقدح فيه، وينال ويغض منه". انتهى.
وقد استدلَّ ابن جني على فساد سليقة الأعراب في زمنه وقبل زمنه بأمور:
منها: أنه قد طرأ عليه أحد من يدَّعي الفصاحة البدوية فتلقى ابن جني أكثر كلامه بالقبول له، وميزه تمييزًا حَسُنَ في النفوس موقعه إلى أن وقع في كلامه ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه، ولا ورد بمثله سماع.