علة امتناع الأخذ عن أهل المدر

إن المراد بالمدر: المدن والحضر، وأصل المدر في اللغة قطع الطين، وسميت الحاضرة بذلك؛ لأن بيوتها ومبانيها تكون من المدر، وقد عرفنا أنه لم يؤخذ عن حضري قط؛ لأن الحاضرة محل اجتماع الناس من كل جانب واختلاط اللغات واختلال الألسنة، وأن ابن جني قد أفرد في (الخصائص) بابًا لعلة امتناع الأخذ عن أهل المدر، قال فيه: "علة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل".

وفي ضوء ما ذكره ابن جني ونقله السيوطي، نعلم أن الحاضرة بذاتها ليست مانعة من الاحتجاج، وإنما امتنع الاحتجاج بكلام أهلها؛ لأنه يغلب عليهم الاحتكاك بغير العرب من الأمم، والاختلاط بالأعاجم، وفساد الألسنة، ومع أن العلماء قد نصُّوا على عدم الاحتجاج بكلام أهل المدر، نجد ابن جني قد بيَّن أن المعيار في الاحتجاج وعدمه ينحصر في أمر واحد، وهو الفصاحة بقاؤها أو عدمها، فمن بقيت فصاحته قُبلت لغته وإن كان من أهل المدر، ومن زالت عنه الفصاحة لم يُؤخذ بكلامه وإن كان من أهل الوبر. يقول ابن جني: "ولو عُلم أن أهل المدينة باقون على فصاحتهم، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم؛ لوجب الأخذ عنهم كما يُؤخذ عن أهل الوبر، وكذلك أيضًا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاد عادة الفصاحة وانتشارها؛ لوجب رفض لغتها وترك تلقّي ما يَرِد عنها".

ومعنى ما ذكره ابن جني ونقله عنه السيوطي: أن الفصاحة الكاملة هي المعيار في قبول الكلام أو ردّه، والمقياس الذي يُعتمد عليه في الاحتجاج وتركه، فلو بقي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015