ثانيا: الاختلاف بين لغتين متباعدتين:

إن كان الاختلاف بين لغتين متباعدتين بأن كانت إحداهما كثيرة جدًّا، وكانت الأخرى قليلة جدًّا؛ فقد بين ابن جني حكم هذه الحالة بقوله: "تأخذ بأوسعهما روايةً، وأقواهما قياسًا" ومعنى ما قاله ابن جني أن اللغات القليلة لا يُقاس عليها، وإنما يقتصر فيها على المسموع، ولا يتجاوز. وقد أفرد ابن فارس في كتابه (الصاحبي) بابًا لهذه اللغات القليلة عنوانه: باب اللغات المذمومة، كما أفرد لها السيوطي النوع الحادي عشر في كتابه (المزهر)، عنوانه: معرفة الرديء المذموم من اللغات، وفي وصف هذه اللغات بأنها رديئة ومذمومة ما يدلُّ على أنها لا يُقاس عليها، وإنما يُكتفى فيها بما سمع عن العرب، فلا يجوز أن يقول قائل: أكرمتكش. بزيادة الشين بعد كاف الخطاب المنصوبة؛ قياسًا على مَن ألحقها بالمجرورة، فقال: مررت بكش؛ لأن هذه اللغة قليلة وتُسمى الكشكشة ولا يقاس عليها.

ونختم ببيان أمرين:

الأول: أن هذه اللغات القليلة يجب أن يقلَّ استعمالها، وأن يكثر استعمال ما هو شائع من اللغات إلا أن استعمال شيء من اللغات القليلة لا يُعَدُّ خطأً يُلام صاحبه عليه، ولا يقال: إن من استعملها قد أخطأ، وإنما يقال: إن مَن يستعمل هذه اللغات يكون مخطئًا لأجود اللغتين حين ترك القوي من اللغات واستعمل الضعيفَ، أو ترك الكثير واستعمل القليلَ.

والثاني: أنه لو اضطر شاعر فاستعمل شيئًا من هذه اللغات القليلة فإنه لا يكون ملومًا على استعماله، وكذلك لو ألجأ السجع أحد المتكلمين به إلى استعمال شيء من هذه اللغات فله ارتكاب ذلك بلا لَوْم ولا نسبة لخطأ ولا إنكار عليه في ذلك؛ لِمَا تقرر أن الضرورات تُبيح المحذورات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015